فصل: بَابُ الْخُلْعِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المبسوط



.بَابُ الْوَلَدِ عِنْدَ مَنْ يَكُونُ فِي الْفُرْقَةِ:

(قَالَ): رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَإِذَا اخْتَلَعَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ زَوْجِهَا عَلَى أَنْ تَتْرُكَ وَلَدَهَا عِنْدَ الزَّوْجِ، فَالْخُلْعُ جَائِزٌ، وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْأُمَّ إنَّمَا تَكُونُ أَحَقَّ بِالْوَلَدِ لِحَقِّ الْوَلَدِ، فَإِنَّ كَوْنَ الْوَلَدِ عِنْدَهَا أَنْفَعُ لَهُ؛ وَلِهَذَا لَوْ تَزَوَّجَتْ، أَوْ كَانَتْ أَمَةً، وَالْوَلَدُ حُرٌّ لَمْ تَكُنْ أَحَقَّ بِالْحَضَانَةِ؛ لِأَنَّهَا مَشْغُولَةٌ بِخِدْمَةِ زَوْجِهَا، أَوْ مَوْلَاهَا، فَلَا مَنْفَعَةَ لِلْوَلَدِ فِي كَوْنِهِ عِنْدَهَا، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ هَذَا مِنْ حَقِّ الْوَلَدِ فَلَيْسَ لَهَا أَنْ تُبْطِلَهُ بِالشَّرْطِ.
(قَالَ): وَإِذَا أَرَادَتْ الْمَرْأَةُ أَنْ تَخْرُجَ بِوَلَدِهَا مِنْ مِصْرٍ إلَى مِصْرٍ فَإِنْ كَانَ النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا قَائِمًا، فَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ إلَّا بِإِذْنِهِ مَعَ الْوَلَدِ وَبِغَيْرِ الْوَلَدِ، فَإِنْ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا، فَإِنْ كَانَ أَصْلُ النِّكَاحِ فِي الْمِصْرِ الَّذِي هِيَ فِيهِ فَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ بِوَلَدِهَا إلَى مِصْرٍ آخَرَ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِضْرَارِ بِالزَّوْجِ بِقَطْعِ وَلَدِهِ عَنْهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْمِصْرَيْنِ قُرْبٌ بِحَيْثُ لَوْ خَرَجَ الزَّوْجُ؛ لِمُطَالَعَةِ الْوَلَدِ أَمْكَنَهُ الرُّجُوعُ إلَى مَنْزِلِهِ قَبْلَ اللَّيْلِ، فَحِينَئِذٍ هَذَا بِمَنْزِلَةِ مَحَالَّ مُخْتَلِفَةٍ فِي مِصْرٍ، وَلَهَا أَنْ تَتَحَوَّلَ مِنْ مَحَلَّةٍ إلَى مَحَلَّةٍ، وَإِنْ كَانَ تَزَوَّجَهَا فِي ذَلِكَ الْمِصْرِ الَّذِي يُرِيدُ الرُّجُوعَ إلَيْهِ، وَنَقَلَهَا إلَى هَذَا الْمِصْرِ، فَإِنْ كَانَتْ مِنْ أَهْلِ هَذَا الْمِصْرِ، فَلَهَا أَنْ تَخْرُجَ بِوَلَدِهَا إلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إنَّمَا يَتَزَوَّجُ الْمَرْأَةَ فِي مِصْرٍ؛ لِيُقِيمَ مَعَهَا فِيهِ، وَإِنَّمَا سَاعَدَتْهُ عَلَى الْخُرُوجِ؛ لِأَجْلِ النِّكَاحِ فَإِذَا ارْتَفَعَ كَانَ لَهَا أَنْ تَعُودَ إلَى مِصْرِهَا؛ لِأَنَّ فِي الْمُقَامِ فِي الْغُرْبَةِ نَوْعُ ذُلٍّ وَلَهَا أَنْ تَخْرُجَ بِوَلَدِهَا؛ لِأَنَّهَا بِأَصْلِ النِّكَاحِ اسْتَحَقَّتْ الْمُقَامَ بِوَلَدِهَا فِي ذَلِكَ الْمِصْرِ، فَإِنَّمَا تَسْتَوْفِي مَا اسْتَحَقَّتْ لَا أَنْ تَقْصِدَ الْإِضْرَارَ بِالزَّوْجِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ الْمِصْرِ الَّذِي تَزَوَّجَهَا فِيهِ، فَإِنْ أَرَادَتْ أَنْ تَخْرُجَ بِوَلَدِهَا إلَى مِصْرِهَا لَمْ يَكُنْ لَهَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْعَقْدِ مَا كَانَ فِي مِصْرِهَا، وَاخْتِيَارُهَا الْغُرْبَةَ لَمْ يَكُنْ بِسَبَبِ النِّكَاحِ، فَلَا يَكُونُ لَهَا أَنْ تَرْجِعَ بِوَلَدِهَا إلَى مِصْرِهَا، وَلَكِنْ يُقَالُ لَهَا: اُتْرُكِي الْوَلَدَ، وَاذْهَبِي حَيْثُ شِئْت، وَكَذَلِكَ إنْ أَرَادَتْ الْخُرُوجَ إلَى مِصْرٍ آخَرَ؛ لِأَنَّهَا فِي ذَلِكَ الْمِصْرِ غَرِيبَةٌ كَمَا هُنَا، فَلَا تَقْصِدُ بِالْخُرُوجِ إلَيْهِ دَفْعَ وَحْشَةِ الْغُرْبَةِ، إنَّمَا تَقْصِدُ قَطْعَ الْوَلَدِ عَنْ أَبِيهِ.
وَإِنْ أَرَادَتْ أَنْ تَخْرُجَ بِهِ إلَى الْمِصْرِ الَّذِي كَانَ تَزَوَّجَهَا فِيهِ، فَلَيْسَ لَهَا ذَلِكَ أَيْضًا؛ لِأَنَّهَا غَرِيبَةٌ فِي ذَلِكَ الْمِصْرِ كَمَا هُنَا، وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ يَقُولُ: اُنْظُرْ إلَى عُقْدَةِ النِّكَاحِ أَيْنَ وَقَعَ، وَهَذِهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ بِالْوَلَدِ إلَى مَوْضِعِ الْعَقْدِ كَمَا لَوْ كَانَ تَزَوَّجَهَا فِي مِصْرِهَا، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَيْسَ لَهَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا تَقْصِدُ الْإِضْرَارَ بِالزَّوْجِ لَا دَفْعَ الْوَحْشَةِ عَنْ نَفْسِهَا بِالْخُرُوجِ إلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ؛ وَلِأَنَّ الزَّوْجَ مَا أَخْرَجَهَا إلَى دَارِ الْغُرْبَةِ بِخِلَافِ مَا إذَا تَزَوَّجَهَا فِي مِصْرِهَا، وَإِنْ كَانَ أَصْلُ النِّكَاحِ فِي رُسْتَاقٍ لَهُ قُرًى مُتَفَرِّقَةٌ، فَأَرَادَتْ أَنْ تَخْرُجَ بِوَلَدِهَا مِنْ قَرْيَةٍ إلَى قَرْيَةٍ، فَلَهَا ذَلِكَ، إنْ كَانَتْ الْقُرَى قَرِيبَةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَّا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ قَطْعُ الْوَلَدِ عَنْ أَبِيهِ، وَإِنْ كَانَتْ بَعِيدَةً فَلَيْسَ لَهَا ذَلِكَ إلَّا أَنْ تَعُودَ إلَى قَرْيَتِهَا، وَقَدْ كَانَ أَصْلُ النِّكَاحِ فِيهَا، وَكَذَلِكَ إنْ أَرَادَتْ أَنْ تَعُودَ مِنْ الْقَرْيَةِ إلَى الْمِصْرِ.
وَإِنْ أَرَادَتْ أَنْ تَخْرُجَ بِوَلَدِهَا مِنْ مِصْرٍ جَامِعٍ إلَى قَرْيَةٍ قَرِيبَةٍ مِنْهُ، فَلَيْسَ لَهَا ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَكُونَ النِّكَاحُ وَقَعَ فِي تِلْكَ الْقَرْيَةِ فَتَخْرُجُ إلَيْهَا؛ لِأَنَّهَا بِأَصْلِ الْعَقْدِ اسْتَحَقَّتْ الْمُقَامَ فِي قَرْيَتِهَا بِوَلَدِهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَصْلُ النِّكَاحِ فِيهَا، فَإِنَّهَا تُمْنَعُ مِنْ الْخُرُوجِ بِوَلَدِهَا؛ لِأَنَّ فِي أَخْلَاقِ أَهْلِ الرُّسْتَاقِ بَعْضَ الْجَفَاءِ قَالَ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَهْلُ الْكُفُورِ هُمْ أَهْلُ الْقُبُورِ» فَفِي خُرُوجِهَا بِوَلَدِهَا إلَى الْقَرْيَةِ مِنْ الْمِصْرِ إضْرَارٌ بِالْوَلَدِ؛ لِأَنَّهُ يَتَخَلَّقُ بِأَخْلَاقِهِمْ وَهِيَ مَمْنُوعَةٌ مِنْ الْإِضْرَارِ بِالْوَلَدِ وَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ بِوَلَدِهَا إلَى دَارِ الْحَرْبِ.
وَإِنْ كَانَ النِّكَاحُ وَقَعَ هُنَاكَ لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِضْرَارِ بِالْوَلَدِ، فَإِنَّهُ يَتَخَلَّقُ بِأَخْلَاقِ أَهْلِ الشِّرْكِ، وَلَا يَأْمَنُ عَلَى نَفْسِهِ هُنَاكَ، فَإِنَّ دَارَ الْحَرْبِ دَارُ نُهْبَةٍ وَغَارَةٍ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ هِيَ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ زَوْجُهَا مُسْلِمًا، أَوْ ذِمِّيًّا؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ ذِمِّيَّةً تَبَعًا لِزَوْجِهَا فَتُمْنَعُ مِنْ الرُّجُوعِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ.
(قَالَ): وَلَيْسَ لِلْمَرْأَةِ، وَإِنْ كَانَتْ أَحَقَّ بِوَلَدِهَا أَنْ تَشْتَرِيَ لَهُ وَتَبِيعَ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ لَهَا حَقُّ الْحَضَانَةِ، فَأَمَّا وِلَايَةُ التَّصَرُّفِ لِلْأَبِ، أَوْ لِمَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ بَعْدَهُ، فَإِنْ كَانَتْ هِيَ وَصِيَّةَ أَبِيهِ فَلَهَا أَنْ تَتَصَرَّفَ بِسَبَبِ الْوِصَايَةِ لَا بِسَبَبِ الْأُمُومَةِ.
(قَالَ): وَكُلُّ فُرْقَةٍ وَقَعَتْ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ فَالْأُمُّ أَحَقُّ بِالْوَلَدِ مَا لَمْ تَتَزَوَّجْ، وَقَدْ بَيَّنَّا تَمَامَ هَذَا فِي النِّكَاحِ إلَّا أَنْ تَرْتَدَّ، فَحِينَئِذٍ إنْ لَحِقَتْ بِدَارِ الْحَرْبِ فَهِيَ مَمْنُوعَةٌ مِنْ أَنْ تَخْرُجَ بِوَلَدِهَا، وَلَا حَقَّ لَهَا فِي الْحَضَانَةِ، وَإِنْ كَانَتْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَإِنَّهَا تُحْبَسُ، وَتُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ فَلَا يَكُونُ لَهَا حَقُّ الْحَضَانَةِ إلَّا أَنْ تَتُوبَ، فَإِنْ تَابَتْ فَهِيَ أَحَقُّ بِالْوَلَدِ.
(قَالَ): وَإِذَا احْتَلَمَ الْغُلَامُ فَلَا سَبِيلَ لِأَبِيهِ عَلَيْهِ إنْ كَانَ قَدْ عَقَلَ وَكَانَ مَأْمُونًا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مِنْ أَهْلِ أَنْ يَلِي عَلَى غَيْرِهِ فَلَا يُوَلَّى عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَخُوفًا عَلَيْهِ، فَحِينَئِذٍ يَضُمُّهُ الْأَبُ إلَى نَفْسِهِ؛ لِدَفْعِ الْفِتْنَةِ، وَلَا نَفَقَةَ لَهُ عَلَى أَبِيهِ إلَّا أَنْ يَتَطَوَّعَ، وَقَدْ بَيَّنَّا تَمَامَ فُصُولِ النَّفَقَةِ فِي النِّكَاحِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

.بَابُ الْخُلْعِ:

(قَالَ): وَإِذَا اخْتَلَعَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ زَوْجِهَا فَالْخُلْعُ جَائِزٌ، وَالْخُلْعُ تَطْلِيقَةٌ بَائِنَةٌ عِنْدَنَا، وَفِي قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ هُوَ فَسْخٌ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَقَدْ رُوِيَ رُجُوعُهُ إلَى قَوْلِ عَامَّةِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ اسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} إلَى أَنْ قَالَ: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} إلَى أَنْ قَالَ: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ}، فَلَوْ جَعَلْنَا الْخُلْعَ طَلَاقًا صَارَتْ التَّطْلِيقَاتُ أَرْبَعًا فِي سِيَاقِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَلَا يَكُونُ الطَّلَاقُ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثٍ؛ وَلِأَنَّ النِّكَاحَ عَقْدٌ مُحْتَمِلٌ لِلْفَسْخِ حَتَّى يُفْسَخَ بِخِيَارِ عَدَمِ الْكَفَاءَةِ، وَخِيَارِ الْعِتْقِ، وَخِيَارِ الْبُلُوغِ عِنْدَكُمْ فَيَحْتَمِلُ الْفَسْخَ بِالتَّرَاضِي أَيْضًا، وَذَلِكَ بِالْخُلْعِ، وَاعْتَبَرَ هَذِهِ الْمُعَاوَضَةَ الْمُحْتَمِلَةَ لِلْفَسْخِ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فِي جَوَازِ فَسْخِهَا بِالتَّرَاضِي.
(وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مَوْقُوفًا عَلَيْهِمْ وَمَرْفُوعًا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الْخُلْعُ تَطْلِيقَةٌ بَائِنَةٌ»، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ النِّكَاحَ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ بَعْدَ تَمَامِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُفْسَخُ بِالْهَلَاكِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ، فَإِنَّ الْمِلْكَ الثَّابِتَ بِهِ ضَرُورِيٌّ لَا يَظْهَرُ إلَّا فِي حَقِّ الِاسْتِيفَاءِ، وَقَدْ قَرَّرْنَا هَذَا فِي النِّكَاحِ، وَبَيَّنَّا أَنَّ الْفَسْخَ بِسَبَبِ عَدَم الْكَفَاءَةِ فَسْخٌ قَبْلَ التَّمَامِ فَكَانَ فِي مَعْنَى الِامْتِنَاعِ مِنْ الْإِتْمَامِ، وَكَذَلِكَ فِي خِيَارِ الْبُلُوغِ، وَالْعِتْقِ، فَأَمَّا الْخُلْعُ يَكُونُ بَعْدَ تَمَامِ الْعَقْدِ، وَالنِّكَاحُ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ بَعْدَ تَمَامِهِ، وَلَكِنْ يَحْتَمِلُ الْقَطْعَ فِي الْحَالِ فَيُجْعَلُ لَفْظُ الْخُلْعِ عِبَارَةً عَنْ رَفْعِ الْعَقْدِ فِي الْحَالِ مَجَازًا، وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ بِالطَّلَاقِ.
أَلَا تَرَى أَنَّ الرَّجُلَ يَقُولُ: خَلَعْت الْخُفَّ مِنْ رِجْلِي يُرِيدُ بِهِ الْفَصْلَ فِي الْحَالِ، فَأَمَّا الْآيَةُ فَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى التَّطْلِيقَةَ الثَّالِثَةَ بِعِوَضٍ، وَبِغَيْرِ عِوَضٍ، وَبِهَذَا لَا يَصِيرُ الطَّلَاقُ أَرْبَعًا، وَفَائِدَةُ هَذَا الِاخْتِلَافِ أَنَّهُ لَوْ خَالَعَهَا بَعْد تَطْلِيقَتَيْنِ عِنْدَنَا لَا تَحِلُّ لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ، وَعِنْدَهُ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا، وَإِنْ نَوَى بِالْخُلْعِ ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ فَهِيَ ثَلَاثٌ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ أَلْفَاظِ الْكِنَايَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ نِيَّةَ الثَّلَاثِ تَسَعُ هُنَاكَ؛ فَكَذَلِكَ فِي الْخُلْعِ، وَإِنْ نَوَى اثْنَتَيْنِ فَهِيَ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ، وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى اثْنَتَانِ كَمَا فِي لَفْظِ الْحُرْمَةِ، وَالْبَيْنُونَةِ، وَكَذَلِكَ كُلُّ طَلَاقٍ بِجُعْلٍ فَهُوَ بَائِنٌ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ مَلَكَ الْبَدَلَ عَلَيْهَا فَتَصِيرُ هِيَ بِمُقَابَلَتِهِ أَمْلَكَ لِنَفْسِهَا؛ وَلِأَنَّ غَرَضَهَا مِنْ الْتِزَامِ الْبَدَلِ أَنْ تَتَخَلَّصَ مِنْ الزَّوْجِ، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ إلَّا بِوُقُوعِ الْبَيْنُونَةِ، فَإِنْ قَالَ الزَّوْجُ: لَمْ أَعْنِ بِالْخُلْعِ طَلَاقًا، وَقَدْ أَخَذَ عَلَيْهِ جُعْلًا لَمْ يُصَدَّقْ فِي الْحُكْمِ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَ الْجُعْلَ عَلَى سَبِيلِ التَّمَلُّكِ، وَلَا يَتَمَلَّكُ ذَلِكَ إلَّا بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا فَكَانَ ذَلِكَ أَدَلَّ عَلَى قَصْدِهِ الطَّلَاقَ مِنْ حَالِ مُذَاكَرَةِ الطَّلَاقِ، وَلَكِنْ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى يَسَعُهُ أَنْ يُقِيمَ مَعَهَا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَالِمٌ بِمَا فِي سِرِّهِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَسَعُ الْمَرْأَةَ أَنْ تُقِيمَ مَعَهُ؛ لِأَنَّهَا لَا تَعْرِفُ مِنْهُ إلَّا الظَّاهِرَ كَالْقَاضِي.
(قَالَ): وَالْمُبَارَأَةُ بِمَنْزِلَةِ الْخُلْعِ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مُشْتَقُّ مِنْ الْبَرَاءَةِ، وَهُوَ أَدَلُّ عَلَى قَطْعِ الْوُصْلَةِ مِنْ الْخُلْعِ، وَإِذَا جُعِلَ الْخُلْعُ تَطْلِيقَةً بَائِنَةً، فَالْمُبَارَأَةُ، أَوْلَى وَلِلْمُخْتَلِعَةِ، وَالْمُبَارَأَةُ النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى مَادَامَ فِي الْعِدَّةِ هَكَذَا نُقِلَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهَذَا؛ لِأَنَّ النَّفَقَةَ لَمْ تَجِبْ قَبْلَ مَجِيءِ وَقْتِهَا فَلَا يَتَنَاوَلُهَا الْخُلْعُ، وَالْبَرَاءَةُ الْعَامَّةُ، وَإِنَّمَا يَنْصَرِفُ مُطْلَقُ اللَّفْظِ إلَى مَا هُوَ وَاجِبٌ.
.
(قَالَ): فَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ اشْتَرَطَ عَلَيْهَا الْبَرَاءَةَ مِنْ النَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى فَهُوَ بَرِيءٌ مِنْ النَّفَقَةِ؛ لِأَنَّهَا أَسْقَطَتْ حَقَّهَا، وَوُجُوبُ النَّفَقَةِ لَهَا فِي الْعِدَّةِ بِاعْتِبَارِ حَالَةِ الْفُرْقَةِ حَتَّى إذَا كَانَتْ مِمَّنْ لَا تَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ عِنْدَ ذَلِكَ لَا تَسْتَحِقُّهُ مِنْ بَعْدُ فَيَصِحُّ إسْقَاطُهَا، وَلَكِنْ فِي ضِمْنِ الْخُلْعِ تَبَعًا لَهُ حَتَّى لَوْ أَسْقَطَتْ نَفَقَتَهَا بَعْدَ الْخُلْعِ بِإِبْرَاءِ الزَّوْجِ عَنْهَا لَا يَصِحُّ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا مَقْصُودَةٌ بِالْإِسْقَاطِ فَلَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ وُجُوبِهَا، وَهِيَ تَجِبُ شَيْئًا فَشَيْئًا بِحَسْبِ الْمُدَّةِ، وَلَا يَصِحُّ إبْرَاؤُهَا عَنْ السُّكْنَى فِي الْخُلْعِ؛ لِأَنَّ خُرُوجَهَا مِنْ بَيْتِ الزَّوْجِ مَعْصِيَةٌ، قَالُوا: وَلَوْ أَبْرَأَتْهُ عَنْ مُؤْنَةِ السُّكْنَى بِأَنْ سَكَنَتْ فِي بَيْتِ نَفْسِهَا، أَوْ الْتَزَمَتْ مُؤْنَةَ السُّكْنَى مِنْ مَالِهَا صَحَّ ذَلِكَ مَشْرُوطًا فِي الْخُلْعِ؛ لِأَنَّهُ خَالِصُ حَقِّهَا.
(قَالَ): وَالْخُلْعُ جَائِزٌ عِنْدَ السُّلْطَانِ وَغَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ يَعْتَمِدَ التَّرَاضِيَ كَسَائِرِ الْعُقُودِ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الطَّلَاقِ بِعِوَضٍ، وَلِلزَّوْجِ وِلَايَةُ إيقَاعِ الطَّلَاقِ، وَلَهَا وِلَايَةُ الْتِزَامِ الْعِوَضِ، فَلَا مَعْنَى لِاشْتِرَاطِ حَضْرَةِ السُّلْطَانِ فِي هَذَا الْعَقْدِ.
(قَالَ): وَإِنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: قَدْ خَالَعْتُكِ، أَوْ بَارَأْتُك، أَوْ طَلَّقْتُك بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، فَالْقَبُولُ إلَيْهَا فِي مَجْلِسِهَا، وَالْحَاصِلُ أَنَّ إيجَابَ الْخُلْعِ مِنْ الزَّوْجِ فِي الْمَعْنَى تَعْلِيقُ الطَّلَاقِ بِشَرْطِ قَبُولِهَا؛ لِأَنَّ الْعِوَضَ الَّذِي مِنْ جَانِبِهِ فِي هَذَا الْعَقْدِ طَلَاقٌ، وَهُوَ مُحْتَمِلٌ لِلتَّعْلِيقِ بِالشَّرْطِ؛ وَلِهَذَا لَا يَبْطُلُ بِقِيَامِهِ عَنْ الْمَجْلِسِ، وَيَصِحُّ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَتْ غَائِبَةً حَتَّى إذَا بَلَغَهَا فَقَبِلَتْ فِي مَجْلِسِهَا، ثُمَّ وَإِنْ قَامَتْ مِنْ مَجْلِسِهَا قَبْلَ أَنْ تَقْبَلَ بَطَلَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ بِمَشِيئَتِهَا وَتَمْلِيكِ الْأَمْرِ مِنْهَا؛ لِأَنَّهَا تَقْدِرُ عَلَى الْمَشِيئَةِ فِي مَجْلِسِهَا فَيَبْطُلُ بِقِيَامِهَا، فَكَذَلِكَ تَقْدِرُ عَلَى الْقَبُولِ قَبْلَ ذَلِكَ، وَاَلَّذِي مِنْ جَانِبِهَا فِي الْخُلْعِ الْتِزَامُ الْمَالِ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ لَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ حَتَّى إذَا بَدَأَتْ فَقَالَتْ: اخْلَعْنِي، أَوْ بَارِئْنِي، أَوْ طَلِّقْنِي بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَإِنَّهُ يَبْطُلُ بِقِيَامِهَا عَنْ الْمَجْلِسِ قَبْلَ قَبُولِ الزَّوْجِ، وَكَذَلِكَ بِقِيَامِ الزَّوْجِ عَنْ الْمَجْلِسَ قَبْلَ الْقَبُولِ كَمَا يَبْطُلُ إيجَابُ الْبَيْعِ بِقِيَامِ أَحَدِهِمَا عَنْ الْمَجْلِسِ قَبْلَ قَبُولِ الْآخَرِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الزَّوْجُ غَائِبًا حِينَ قَالَتْ هَذِهِ الْمَقَالَةَ، لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى قَبُولِهِ، إذَا بَلَغَهُ كَمَا لَا يَتَوَقَّفُ إيجَابُ الْبَيْعِ عَلَى قَبُولِ الْمُشْتَرِي إذَا كَانَ غَائِبًا.
(قَالَ): فَإِنْ قَالَتْ: طَلِّقْنِي ثَلَاثًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَطَلَّقَهَا وَاحِدَةً فَلَهُ ثُلُثُ الْأَلْفِ؛ لِأَنَّ حَرْفَ الْبَاءِ يَصْحَبُ الْأَبْدَالَ، وَالْأَعْوَاضَ، وَالْعِوَضُ يَنْقَسِمُ عَلَى الْمُعَوَّضِ، فَهِيَ لَمَّا الْتَمَسَتْ الثُّلُثَ بِأَلْفٍ فَقَدْ جَعَلَتْ بِإِزَاءِ كُلِّ تَطْلِيقَةٍ ثُلُثَ الْأَلْفِ، ثُمَّ فِيمَا صَنَعَ الزَّوْجُ مَنْفَعَةً لَهَا؛ لِأَنَّهَا رَضِيَتْ بِوُجُوبِ جَمِيعِ الْأَلْفِ عَلَيْهَا بِمُقَابَلَةِ التَّخَلُّصِ مِنْ زَوْجِهَا فَتَكُونُ أَرْضَى بِوُجُوبِ ثُلُثِ الْأَلْفِ عَلَيْهَا إذَا تَخَلَّصَتْ مِنْ زَوْجِهَا، وَبِالْوَاحِدَةِ تَتَخَلَّصُ مِنْهُ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ الزَّوْجُ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا بِأَلْفٍ فَقَبِلَتْ وَاحِدَةً لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ لَوْ وَقَعَتْ الْوَاحِدَةُ لَوَقَعَتْ بِثُلُثِ الْأَلْفِ، وَالزَّوْجُ مَا رَضِيَ بِزَوَالِ مِلْكِهِ عَنْهَا مَا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهَا جَمِيعُ الْأَلْفِ، وَبِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ: هَذِهِ طَالِقٌ، وَهَذِهِ بِأَلْفٍ فَقَبِلَتْ إحْدَاهُمَا وَقَعَ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا بِنِصْفِ الْأَلْفِ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ هُنَاكَ رَاضٍ بِوُقُوعِ الْفُرْقَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ إحْدَاهُمَا إذَا وَجَبَتْ عَلَيْهَا حِصَّتُهَا مِنْ الْمَالِ، فَإِنَّ نِكَاحَ إحْدَاهُمَا لَا يَتَّصِلُ بِنِكَاحِ الْأُخْرَى.
(قَالَ): وَلَوْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا فِي كَلَامٍ مُتَفَرِّقٍ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ فِي الْقِيَاسِ، يَلْزَمُهَا ثُلُثَ الْأَلْفِ؛ لِأَنَّهَا بَانَتْ بِالْأُولَى فَلَزِمَهَا ثُلُثُ الْأَلْفِ، فَهُوَ بِإِيقَاعِ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَسْتَوْجِبُ عَلَيْهَا عِوَضًا آخَرَ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَقَعُ عَلَيْهَا ثَلَاثُ تَطْلِيقَاتٍ بِجَمِيعِ الْأَلْفِ؛ لِأَنَّ الْمَجْلِسَ الْوَاحِدَ يَجْمَعُ الْكَلِمَاتِ الْمُتَفَرِّقَةَ، وَيَجْعَلُهَا كَكَلَامٍ وَاحِدٍ فَكَأَنَّهُ أَوْقَعَ الثَّلَاثَ عَلَيْهَا بِكَلَامٍ وَاحِدٍ فَيَلْزَمُهَا جَمِيعُ الْأَلْفِ.
(قَالَ): وَلَوْ كَانَتْ قَالَتْ لَهُ: طَلِّقْنِي ثَلَاثًا عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ، أَوْ عَلَى أَنْ لَك عَلَيَّ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَطَلَّقَهَا وَاحِدَةً قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى تَقَعُ تَطْلِيقَةً رَجْعِيَّةً، وَلَيْسَ عَلَيْهَا شَيْءٌ مِنْ الْأَلْفِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى: يَقَعُ عَلَيْهَا تَطْلِيقَةً بَائِنَةً بِثُلُثِ الْأَلْفِ وَحُجَّتُهُمَا فِي ذَلِكَ أَنَّ الْخُلْعَ مِنْ عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ، وَحَرْفُ عَلَى فِي الْمُعَاوَضَاتِ كَحَرْفِ الْبَاءِ.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا فَرَّقَ بَيْنَ أَنْ يَقُولَ: بِعْتُ مِنْك هَذَا الْمَتَاعَ بِدِرْهَمٍ، أَوْ عَلَى دِرْهَمٍ، وَكَذَلِكَ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَقُولَ: احْمِلْ هَذَا الْمَتَاعَ إلَى مَوْضِعِ كَذَا بِدِرْهَمٍ، أَوْ عَلَى دِرْهَمٍ، فَإِذَا كَانَ عِنْدَ حَرْفِ الْبَاءِ تَتَوَزَّعُ الْأَلْفُ عَلَى التَّطْلِيقَاتِ الثَّلَاثِ، فَكَذَلِكَ عِنْدَ ذِكْرِ حَرْفِ عَلَى يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهَا لَوْ قَالَتْ: طَلِّقْنِي وَفُلَانَةَ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ فَطَلَّقَهَا وَحْدَهَا كَانَ عَلَيْهَا حِصَّتُهَا مِنْ الْمَالِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ الْتَمَسَتْ بِحَرْفِ الْبَاءِ، فَكَذَلِكَ هُنَا، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا قَالَ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ: إذَا صَالَحَ الْإِمَامُ أَهْلَ حِصْنٍ عَلَى أَنْ يُؤَمِّنَهُمْ ثَلَاثَ سِنِينَ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ، ثُمَّ بَدَا لَهُ بَعْدَ مُضِيِّ السَّنَةِ أَنْ يَنْبِذَ إلَيْهِمْ يَلْزَمُهُ رَدُّ جَمِيعِ الْمَالِ، وَلَوْ كَانَ الصُّلْحُ بِحَرْفِ الْبَاءِ يَلْزَمُهُ رَدُّ ثُلُثَيْ الْمَالِ؛ لِأَنَّ إعْطَاءَ الْأَمَانِ لَيْسَ بِعَقْدِ مُعَاوَضَةٍ، وَحَرْفُ عَلَى لِلشَّرْطِ فَجَعْلُهُ بِمَنْزِلَةِ الْبَاءِ مَجَازًا يُصَارُ إلَيْهِ لِدَلَالَةِ الْمُعَاوَضَةِ؛ وَلِأَنَّ غَرَضَهُمْ لَا يَحْصُلُ هُنَاكَ فَمَقْصُودُهُمْ أَنْ يَتَحَصَّنُوا فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ، وَلَا يَتَمَكَّنُوا مِنْ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْمُدَّةِ فَلِهَذَا حَمَلْنَا حَرْفَ عَلَى عَلَى الشَّرْطِ، وَهُنَا مَقْصُودُهَا يَحْصُلُ بِإِيقَاعِ الْوَاحِدَةِ فَكَانَ مَحْمُولًا عَلَى الْمُعَاوَضَةِ بِمَنْزِلَةِ حَرْفِ الْبَاءِ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: حَرْفُ عَلَى لِلشَّرْطِ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّهُ حَرْفُ الِالْتِزَامِ، وَلَا مُقَابَلَةَ بَيْنَ الْوَاقِعِ وَبَيْنَ مَا الْتَزَمَ، بَلْ بَيْنَهُمَا مُعَاقَبَةٌ كَمَا يَكُونُ بَيْنَ الشَّرْطِ، وَالْجَزَاءِ، فَكَانَ مَعْنَى الشَّرْطِ فِيهِ حَقِيقَةً، وَالتَّمَسُّكُ بِالْحَقِيقَةِ وَاجِبٌ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلُ الْمَجَازِ، وَالطَّلَاقُ مِمَّا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ، فَلَا حَاجَةَ إلَى الْعُدُولِ مِنْ الْحَقِيقَةِ إلَى الْمَجَازِ.
فَإِذَا كَانَ مَحْمُولًا عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَالشَّرْطُ يُقَابِلُ الْمَشْرُوطَ جُمْلَةً، وَلَا يُقَابِلُهُ جُزْءًا فَجُزْءً، فَإِنَّمَا شَرَطَتْ لِوُجُوبِ الْمَالِ عَلَيْهَا إيقَاعَ الثَّلَاثِ، فَإِذَا لَمْ يُوقِعْ لَا يَجِبُ شَيْءٌ مِنْ الْمَالِ؛ وَلِأَنَّ لَهَا فِي ذَلِكَ غَرَضًا صَحِيحًا، وَهُوَ حُصُولُ الْبَيْنُونَةِ الْغَلِيظَةِ؛ حَتَّى لَا تَصِيرَ فِي وَثَاقِ نِكَاحِهِ، وَإِنْ أَكْرَهَهَا عَلَى ذَلِكَ فَاعْتَبَرْنَا مَعْنَى الشَّرْطِ فِي ذَلِكَ لِيَحْصُلَ مَقْصُودُهَا كَمَا فِي مَسْأَلَةِ الْأَمَانِ، وَكَمَا أَنَّ الْمَالَ فِي الْأَمَانِ نَادِرٌ، فَكَذَلِكَ فِي الطَّلَاقِ الْغَالِبُ فِيهِ الْإِيقَاعُ بِغَيْرِ بَدَلٍ، وَبِهَذَا فَارَقَ الْبَيْعَ، وَالْإِجَارَةَ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الشَّرْطِ هُنَاكَ تَعَذَّرَ اعْتِبَارُهُ، فَإِنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ؛ فَلِهَذَا جَعَلْنَا حَرْفَ عَلَى بِمَعْنَى حَرْفِ الْبَاءِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ حَرْفَ عَلَى لِلشَّرْطِ قَوْله تَعَالَى {إنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إلَّا الْحَقَّ}، أَيْ بِشَرْطِ أَنْ لَا أَقُولَ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يُبَايِعْنَك عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاَللَّهِ شَيْئًا}، أَيْ بِشَرْطِ أَنْ لَا يُشْرِكْنَ، وَهَذَا بِخِلَافِ قَوْلِهِ: طَلِّقْنِي وَفُلَانَةَ عَلَى كَذَا؛ لِأَنَّهُ لَا غَرَضَ لَهَا فِي طَلَاقِ فُلَانَةَ؛ لِتَجْعَلَ ذَلِكَ كَالشَّرْطِ مِنْهَا وَلَهَا فِي اشْتِرَاطِ إيقَاعِ الثَّلَاثِ غَرَضٌ صَحِيحٌ كَمَا بَيَّنَّا، وَإِنْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مُتَفَرِّقَاتٍ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، فَالْأَلْفُ لَازِمَةٌ عَلَيْهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّ شَيْئًا مِنْ الْبَدَلِ لَمْ يَجِبْ بِإِيقَاعِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ، وَالْمَجْلِسُ الْوَاحِدُ يَجْمَعُ الْكَلِمَاتِ الْمُتَفَرِّقَةَ وَعِنْدَهُمَا عَلَى الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ الَّذِي بَيَّنَّا فِي حَرْفِ الْبَاءِ.
(قَالَ): وَإِذَا طَلَّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ، وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ بَعْدَ الْخُلْعِ عَلَى جُعْلٍ وَقَعَ الطَّلَاقُ، وَلَمْ يَثْبُتْ الْجُعْلُ، وَكَذَلِكَ الْبَائِنَةُ بَعْدَ الْخُلْعِ يَعْنِي إذَا قَالَ لَهَا: أَنْتِ بَائِنٌ، ثُمَّ طَلَّقَهَا عَلَى جُعْلٍ فِي الْعِدَّةِ؛ لِأَنَّهَا بِاعْتِبَارِ قِيَامِ الْعِدَّةِ مَحَلٌّ لِلطَّلَاقِ، وَالطَّلَاقُ تَعْلِيقًا مِنْ الزَّوْجِ بِشَرْطِ الْقَبُولِ، وَقَدْ قَبِلَتْ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهَا الْجُعْلُ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْجُعْلِ عَلَيْهَا بِاعْتِبَارِ زَوَالِ مِلْكِ الزَّوْجِ عَنْهَا، وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ وَلَكِنَّ امْتِنَاعَ وُجُوبِ الْمَقْبُولِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْقَبُولِ فِي حُكْمِ وُقُوعِ الطَّلَاقِ، كَمَا لَوْ خَالَعَهَا بِبَدَلٍ فَاسِدٍ كَالْخَمْرِ، وَالْخِنْزِيرِ.
(قَالَ): وَإِنْ قَالَ لَهَا بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ: خَلَعْتُك يَنْوِي بِهِ الطَّلَاقَ لَمْ يَقَعْ؛ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ بِمَنْزِلَةِ لَفْظِ الْبَيْنُونَةِ، وَالْحُرْمَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ لَا يَعْمَلُ فِي الْعِدَّةِ بَعْدَ الْفُرْقَةِ، فَكَذَلِكَ لَفْظُ الْخُلْعِ.
أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَاقِعَ بِلَفْظِ الْخُلْعِ يَكُونُ بَائِنًا، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ الْبَدَلَ بِمُقَابَلَتِهِ بِخِلَافِ الْوَاقِعِ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ، وَلَوْ قَالَ: كُلُّ امْرَأَةٍ لِي طَالِقٌ لَمْ تَطْلُقْ هَذِهِ الْمُبَانَةُ إلَّا أَنْ يَعْنِيهَا، فَإِنْ عَنَاهَا طَلُقَتْ؛ لِأَنَّهُ، أَوْقَعَ بِهَذَا اللَّفْظِ عَلَى كُلِّ امْرَأَةٍ هِيَ مُضَافَةٌ إلَيْهِ مُطْلَقًا، وَهِيَ الْمَنْكُوحَةُ، فَإِنَّهَا تُضَافُ إلَيْهِ مِلْكًا وَيَدًا، فَأَمَّا الْمُبَانَةُ تُضَافُ إلَيْهِ يَدًا لَا مِلْكًا، فَكَانَتْ مُقَيَّدَةً فَلَا تَدْخُلُ تَحْتَ الْمُطْلَقِ إلَّا أَنْ يَعْنِيهَا، كَمَا لَوْ قَالَ: كُلُّ مَمْلُوكٍ لِي فَهُوَ حُرٌّ لَا يَدْخُلُ الْمُكَاتَبُ فِيهِ إلَّا أَنْ يَعْنِيه، وَلَا يَقَعُ شَيْءٌ مِنْ الطَّلَاقِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ عَلَيْهَا مِلْكٌ وَلَا يَدٌ، وَبِدُونِهِمَا لَا تَكُونُ مَحَلًّا لِإِضَافَةِ الطَّلَاقِ إلَيْهَا؛ لِأَنَّ الْإِيقَاعَ تَصَرُّفٌ مِنْهُ عَلَى الْمَحَلِّ فَيَسْتَدْعِي وِلَايَتَهُ عَلَى الْمَحَلِّ.
(قَالَ): وَإِنْ طَلَّقَهَا عَلَى جُعْلٍ بَعْدَ الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ جَازَ وَلَزِمَهَا الْجُعْلُ؛ لِأَنَّ زَوَالَ الْمِلْكِ لَا يَحْصُلُ بِهَذَا الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ الرَّجْعِيَّ لَا يُزِيلَ مِلْكَ النِّكَاحِ، فَإِنَّهُ يَعْتَاضُ عَنْ مِلْكٍ قَائِمٍ لَهُ فَيَصِحُّ كَمَا قَبْلَ الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ.
(قَالَ): وَخُلْعُ السَّكْرَانِ وَطَلَاقُهُ وَعَتَاقُهُ وَاقِعٌ عِنْدَنَا، وَفِي أَحَدِ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يَقَعُ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْكَرْخِيِّ وَالطَّحَاوِيِّ، وَقَدْ نُقِلَ ذَلِكَ عَنْ عُثْمَانَ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلسَّكْرَانِ قَصْدٌ صَحِيحٌ، وَالْإِيقَاعُ يَعْتَمِدُ الْقَصْدَ الصَّحِيحَ؛ وَلِهَذَا لَا يَصِحُّ مِنْ الصَّبِيِّ، وَالْمَجْنُونِ.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ سَكِرَ مِنْ شُرْبِ الْبَنْجِ لَمْ يَقَعْ طَلَاقُهُ، فَكَذَلِكَ إذَا سَكِرَ مِنْ النَّبِيذِ؛ وَلِأَنَّ غَفْلَتَهُ عَنْ نَفْسِهِ فَوْقَ غَفْلَةِ النَّائِمِ، فَإِنَّ النَّائِمَ يَنْتَبِهُ إذَا نُبِّهَ وَالسَّكْرَانُ لَا يَنْتَبِهُ، ثُمَّ طَلَاقُ النَّائِمِ لَا يَقَعُ، فَطَلَاقُ السَّكْرَانِ، أَوْلَى، وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِ مَنْ يَقُولُ غَفْلَتُهُ هُنَا بِسَبَبِ الْمَعْصِيَةِ، وَذَلِكَ سَبَبُ لِلتَّشْدِيدِ عَلَيْهِ لَا لِلتَّخْفِيفِ، فَإِنَّ السَّكْرَانَ لَوْ ارْتَدَّ تَصِحُّ رِدَّتُهُ بِالِاتِّفَاقِ، وَلَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ، وَلَوْ اُعْتُبِرَ هَذَا الْمَعْنَى؛ لَحُكِمَ بِصِحَّةِ رِدَّتِهِ، وَحُجَّتُنَا مَا رَوَيْنَا كُلُّ طَلَاقٍ جَائِزٍ إلَّا طَلَاقَ الصَّبِيِّ، وَالْمَعْتُوهِ؛ وَلِأَنَّ السَّكْرَانَ مُخَاطَبٌ، فَإِذَا صَادَفَ تَصَرُّفُهُ مَحَلَّهُ نَفَذَ كَالصَّاحِي، وَدَلِيلُ الْوَصْفِ قَوْله تَعَالَى {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى}، فَإِنْ كَانَ خِطَابًا بِهِ فِي حَالِ سُكْرِهِ فَهُوَ نَصٌّ، وَإِنْ كَانَ خِطَابًا لَهُ قَبْلَ سُكْرِهِ فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ مُخَاطَبٌ فِي حَالِ سُكْرِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ: إذَا جُنِنْت فَلَا تَفْعَلْ كَذَا، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْخِطَابَ إنَّمَا يُتَوَجَّهُ بِاعْتِدَالِ الْحَالِ، وَلَكِنَّهُ أَمْرٌ بَاطِنٌ لَا يُوقَفُ عَلَى حَقِيقَتِهِ فَيُقَامُ السَّبَبُ الظَّاهِرُ الدَّالُّ عَلَيْهِ، وَهُوَ الْبُلُوغُ عَنْ عَقْلِ مَقَامِهِ؛ تَيْسِيرًا، وَبِالسُّكْرِ لَا يَنْعَدِمُ هَذَا الْمَعْنَى، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ مُخَاطَبٌ قُلْنَا غَفْلَتُهُ عَنْ نَفْسِهِ لَمَّا كَانَتْ بِسَبَبٍ هُوَ مَعْصِيَةٌ، وَلَا يَسْتَحِقُّ بِهِ التَّخْفِيفَ،
لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عُذْرًا فِي الْمَنْعِ مِنْ نُفُوذِ شَيْءٍ مِنْ تَصَرُّفَاتِهِ بَعْدَ مَا تَقَرَّرَ سَبَبُهُ؛ لِأَنَّ بِالسُّكْرِ لَا يَزُولُ عَقْلُهُ إنَّمَا يَعْجِزُ عَنْ اسْتِعْمَالِهِ؛ لِغَلَبَةِ السُّرُورِ عَلَيْهِ بِخِلَافِ الْبَنْجِ، فَإِنَّ غَفْلَتَهُ لَيْسَتْ بِسَبَبٍ هُوَ مَعْصِيَةٌ، وَمَا يَعْتَرِيهِ نَوْعُ مَرَضٍ لَا أَنْ يَكُونَ سُكْرًا حَقِيقَةً، فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْإِغْمَاءِ، وَبِخِلَافِ النَّائِمِ؛ لِأَنَّ النَّوْمَ يَمْنَعُهُ مِنْ الْعَمَلِ؛ فَلِانْعِدَامِ الْإِيقَاعِ نَقُولُ: إنَّهُ لَا يَقَعُ، وَالسُّكْرُ لَا يَمْنَعُهُ مِنْ الْعَمَلِ مَعَ أَنَّ الْغَفْلَةَ بِسَبَبِ النَّوْمِ لَمْ تَكُنْ عَنْ مَعْصِيَةٍ، وَهَذَا بِخِلَافِ الرِّدَّةِ، فَإِنَّ الرُّكْنَ فِيهَا الِاعْتِقَادُ، وَالسَّكْرَانُ غَيْرُ مُعْتَقِدٍ لِمَا يَقُولُ، فَلَا يُحْكَمُ بِرِدَّتِهِ، لِانْعِدَامِ رُكْنِهَا لَا لِلتَّخْفِيفِ عَلَيْهِ بَعْدَ تَقَرُّرِ السَّبَبِ.
(قَالَ): وَخُلْعُ الْمُكْرَهِ وَطَلَاقُهُ وَعَتَاقُهُ جَائِزٌ عِنْدَنَا، وَهُوَ بَاطِلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، فَتَأْثِيرُ الْإِكْرَاهِ عِنْدَهُ فِي إلْغَاءِ عِبَارَةِ الْمُكْرَهِ كَتَأْثِيرِ الصَّبِيِّ، وَالْجُنُونِ.
وَعِنْدَنَا تَأْثِيرُ الْإِكْرَاهِ فِي انْعِدَامِ الرِّضَا لَا فِي إهْدَارِ الْقَوْلِ حَتَّى تَنْعَقِدَ تَصَرُّفَاتُ الْمُكْرَهِ، وَلَكِنْ مَا يَعْتَمِدُ لُزُومُهُ تَمَامَ الرِّضَا كَالْبَيْعِ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ، وَمَا لَا يَعْتَمِدُ تَمَامَ الرِّضَا كَالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ، وَالْعَتَاقِ يَلْزَمُ مِنْهُ، وَحُجَّتُهُ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ»، فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ عَيْنَ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ فَحُكْمُهُ وَإِثْمُهُ يَكُونُ مَرْفُوعًا عَنْهُ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ هَذِهِ فُرْقَةٌ يَعْتَمِدُ سَبَبُهَا الْقَوْلَ، فَلَا تَصِحُّ مِنْ الْمُكْرَهِ كَالرِّدَّةِ، وَتَأْثِيرُهُ أَنَّ الْقَوْلَ إنَّمَا يُعْتَبَرُ شَرْعًا، إذَا صَدَرَ عَنْ قَصْدٍ صَحِيحٍ وَبِسَبَبِ الْإِكْرَاهِ يَنْعَدِمُ ذَلِكَ الْقَصْدُ؛ لِأَنَّ الْمُكْرَهَ يَقْصِدُ دَفْعَ الشَّرِّ عَنْ نَفْسِهِ لَا عَيْنَ مَا تَكَلَّمَ بِهِ، وَهُوَ مُضْطَرٌّ إلَى هَذَا الْقَصْدِ وَالِاخْتِيَارِ أَيْضًا فَيَفْسُدُ قَصْدُهُ شَرْعًا.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أُكْرِهَ عَلَى الْإِقْرَارِ بِالطَّلَاقِ كَانَ إقْرَارُهُ لَغْوًا؛ لِهَذَا يُقَرِّرُهُ أَنَّ تَأْثِيرَ الْإِكْرَاهِ الْمُبِيحِ لِلْإِقْدَامِ فِي جَعْلِ الْمُكْرَهِ آلَةً لِلْمُكْرِهِ وَإِعْدَامِ الْفِعْلِ مِنْ الْمُكْرَهِ، كَمَا فِي الْإِكْرَاهِ عَلَى إتْلَافِ الْمَالِ فَيُجْعَلُ الْمُكْرَهُ آلَةً، وَيَصِيرُ كَأَنَّ الْمُكْرَهَ هُوَ الَّذِي تَكَلَّمَ بِالْإِيقَاعِ فَيَكُونُ لَغْوًا.
أَلَا تَرَى أَنَّ حَقَّ إبْقَاءِ قَدْرِ الْمِلْكِ عَلَى الْمُكْرَهِ جُعِلَ كَالْآلَةِ؛ حَتَّى يَكُونَ الْمُكْرَهُ ضَامِنًا قِيمَةَ عَبْدِهِ عِنْدَكُمْ إذَا أَكْرَهَهُ عَلَى أَنْ يَعْتِقَهُ، وَيَكُونُ ضَامِنًا نِصْفَ الصَّدَاقِ إذَا أَكْرَهَهُ عَلَى الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ، فَكَذَلِكَ فِي إبْقَاءِ عَيْنِ الْمِلْكِ عَلَيْهِ يُجْعَلُ آلَةً لَهُ، وَحُجَّتنَا فِي ذَلِكَ مَا رُوِيَ «أَنَّ امْرَأَةً كَانَتْ تُبْغِضُ زَوْجَهَا فَوَجَدَتْهُ نَائِمًا فَأَخَذَتْ شَفْرَةً وَجَلَسَتْ عَلَى صَدْرِهِ، ثُمَّ حَرَّكَتْهُ، فَقَالَتْ: لِتُطَلِّقَنِي ثَلَاثًا، أَوْ لَأَذْبَحَنَّكَ، فَنَاشَدَهَا اللَّهَ تَعَالَى فَأَبَتْ فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا، ثُمَّ جَاءَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا قَيْلُولَةَ فِي الطَّلَاقِ»، وَاسْتَكْثَرَ مُحَمَّدٌ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ بِالْآثَارِ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْإِكْرَاهِ حَتَّى رَوَى عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ أَرْبَعٌ مُبْهَمَاتٌ مُقْفَلَاتٌ لَيْسَ فِيهِنَّ رَدِيدٌ: النِّكَاحُ وَالطَّلَاقُ، وَالْعَتَاقُ وَالصَّدَقَةُ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ مُكَلَّفٌ، أَوْقَعَ الطَّلَاقَ فِي مَحَلِّهِ فَيَقَعُ كَالطَّائِعِ، وَتَفْسِيرُ الْوَصْفِ أَنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يُزِيلُ الْخِطَابَ، أَمَّا فِي غَيْرِ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ، فَلَا إشْكَالَ، وَفِيمَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ كَذَلِكَ حَتَّى تُنَوَّعَ عَلَيْهِ أَفْعَالُهُ فَتَارَةً يُبَاحُ لَهُ الْإِقْدَامُ، وَتَارَةً يُفْتَرَضُ عَلَيْهِ كَشُرْبِ الْخَمْرِ، وَتَارَةً يُحَرَّمُ عَلَيْهِ كَالْقَتْلِ وَالزِّنَا، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بِاعْتِبَارِ الْخِطَابِ، وَتَأْثِيرُهُ أَنَّ انْعِقَادَ التَّصَرُّفِ بِوُجُودِ رُكْنِهِ وَمَحَلِّهِ، وَلَا يَنْعَدِمُ بِسَبَبِ الْإِكْرَاهِ، ذَلِكَ إنَّمَا يَنْعَدِمُ الرِّضَا بِهِ، وَالرِّضَا لَيْسَ بِشَرْطٍ؛ لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ.
أَلَا تَرَى أَنَّ الرِّضَا بِاشْتِرَاطِ الْخِيَارِ يَنْعَدِمُ، وَلَا يَمْنَعُ لُزُومَ الطَّلَاقِ، فَكَذَلِكَ الْإِكْرَاهُ وَبِسَبَبِ الْإِكْرَاهِ لَا يَنْعَدِمُ الْقَصْدُ الصَّحِيحُ، فَإِنَّ الْمُكْرَهَ يَقْصِدُ مَا بَاشَرَهُ وَلَكِنْ لِغَيْرِهِ، وَهُوَ دَفْعُ الشَّرِّ عَنْ نَفْسِهِ لَا لِعَيْنِهِ فَهُوَ كَالْهَازِلِ يَكُونُ قَاصِدًا التَّكَلُّمَ بِالطَّلَاقِ، وَلَكِنْ لِلْعَبَثِ لَا لِعَيْنِهِ ثُمَّ الْهَزْلُ لَا يَمْنَعُ وُقُوعَ الطَّلَاقِ، فَكَذَلِكَ الْإِكْرَاهُ وَلِلْمُكْرَهِ اخْتِيَارٌ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّهُ عَرَفَ الشَّرَّيْنِ فَاخْتَارَ أَهْوَنَهُمَا، وَهَذَا دَلِيلُ صِحَّةِ اخْتِيَارِهِ إلَّا أَنَّهُ لَا يُحْكَمُ بِصِحَّةِ رِدَّتِهِ؛ لِأَنَّهَا تَنْبَنِي عَلَى الِاعْتِقَادِ، وَهُوَ غَيْرُ مُعْتَقِدٍ، وَفِيمَا يُخْبِرُ بِهِ عَنْ اعْتِقَادِهِ مُكْرَهٌ، فَذَلِكَ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُعْتَقِدٍ بِخِلَافِ الْهَازِلِ، فَإِنَّهُ مُسْتَخِفٌّ بِالدِّينِ، وَالِاسْتِخْفَافُ بِالدِّينِ كُفْرٌ، وَبِخِلَافِ الْإِقْرَارِ بِالطَّلَاقِ، فَإِنَّهُ خَبَرٌ مُتَمَثِّلٌ بَيْنَ الصِّدْقِ، وَالْكَذِبِ، وَقِيَامُ السَّبَبِ عَلَى رَأْسِهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ كَاذِبٌ، وَالْمَخْبَرُ بِهِ إذَا كَانَ كَذِبًا؛ فَالْإِخْبَارُ عَنْهُ لَا يَصِيرُ صِدْقًا وَلَا مَعْنَى لِجَعْلِ الْمُكْرَهِ آلَةً لِلْمُكْرِهِ هُنَا؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُجْعَلُ بِالْإِكْرَاهِ آلَةً فِيمَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ آلَةً لِغَيْرِهِ دُونَ مَا لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ، وَفِي التَّكَلُّمِ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ آلَةً لِغَيْرِهِ؛ إذْ لَا يَتَحَقَّقُ تَكَلُّمُ الْمَرْءِ بِلِسَانِ غَيْرِهِ فَبَقِيَ مَقْصُورًا عَلَيْهِ، وَلَكِنْ فِي حُكْمِ الْإِتْلَافِ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ آلَةً لِغَيْرِهِ؛ فَلِهَذَا كَانَ الضَّمَانُ عَلَى الْمُكْرَهِ مَعَ أَنَّ الْخِلَافَ ثَابِتٌ فِي الْإِكْرَاهِ بِالْحَبْسِ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ الْإِكْرَاهِ لَا يَجْعَلُ الْمُكْرَهَ آلَةً لِلْمُكْرِهِ، وَالْمُرَادُ بِالْحَدِيثِ رَفْعُ الْإِثْمِ عَنْ الْمُكْرَهِ لَا رَفْعُ الْعَيْنِ، وَالْحُكْمِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أُكْرِهَ أَنْ يُجَامِعَ أُمَّ امْرَأَتِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْغُسْلُ، وَحُرِّمَتْ عَلَيْهِ امْرَأَتُهُ بِذَلِكَ.
.
(قَالَ): وَخُلْعُ الصَّبِيِّ وَطَلَاقُهُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ قَصْدٌ مُعْتَبَرٌ شَرْعًا خُصُوصًا فِيمَا يَضُرُّهُ، وَهَذَا؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ اعْتِبَارَ الْقَصْدِ يَنْبَنِي عَلَى الْخِطَابِ، وَالْخِطَابُ يَنْبَنِي عَلَى اعْتِدَالِ الْحَالِ، وَكَذَلِكَ فِعْلُ أَبِيهِ عَلَيْهِ فِي الطَّلَاقِ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْوِلَايَةَ إنَّمَا تَثْبُتُ عَلَى الصَّبِيِّ؛ لِمَعْنَى النَّظَرِ لَهُ؛ وَلِتَحَقُّقِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ، وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ فِي الطَّلَاقِ، وَالْعَتَاقِ.
(قَالَ): وَالْمَعْتُوهُ، وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ مِنْ مَرَضٍ بِمَنْزِلَةِ الصَّبِيِّ فِي ذَلِكَ؛ لِانْعِدَامِ الْقَصْدِ الصَّحِيحِ مِنْهُمَا.
(قَالَ): وَإِذَا اخْتَلَعَتْ الصَّبِيَّةُ مِنْ زَوْجِهَا الْكَبِيرِ فَالطَّلَاقُ وَاقِعٌ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ مِنْ أَهْلِ الْإِيقَاعِ وَإِيجَابُ الْخُلْعِ تَعْلِيقُ الطَّلَاقِ بِشَرْطِ قَبُولِهَا، وَقَدْ تَحَقَّقَ الْقَبُولُ مِنْهَا فَيَقَعُ كَمَا لَوْ قَالَ لَهَا: إنْ تَكَلَّمْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَتَكَلَّمَتْ، وَلَكِنْ لَا يَلْزَمُهَا الْمَالُ؛ لِأَنَّ الْتِزَامَ الْمَالِ مِنْ الصَّبِيَّةِ لَا يَصِحُّ خُصُوصًا فِيمَا لَا مَنْفَعَةَ لَهَا فِيهِ كَالِالْتِزَامِ بِالْإِقْرَارِ، وَالْكَفَالَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ وُقُوعَ الطَّلَاقِ يَعْتَمِدُ الْقَبُولَ لَا وُجُودَ الْمَقْبُولِ، وَكَذَلِكَ الْأَمَةُ إذَا اخْتَلَعَتْ مِنْ زَوْجِهَا بِغَيْرِ إذْنِ الْمَوْلَى فَالطَّلَاقُ وَاقِعٌ عَلَيْهَا، وَلَا تُؤَاخَذُ بِالْمَالِ إلَّا بَعْدَ الْعِتْقِ؛ لِأَنَّهَا مُخَاطَبَةٌ يَصِحُّ الْتِزَامُهَا فِي حَقِّ نَفْسِهَا دُونَ الْمَوْلَى فَتُؤَاخَذُ بِهِ بَعْدَ الْعِتْقِ كَمَا لَوْ الْتَزَمَتْ بِالْإِقْرَارِ، وَالْكَفَالَةِ، وَإِنْ فَعَلَتْهُ بِإِذْنِ الْمَوْلَى سَعَتْ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْتِزَامَهَا الْمَالَ بِإِذْنِ الْمَوْلَى صَحِيحٌ فِي حَقِّ الْمَوْلَى فَتُؤَاخَذُ بِهِ فِي الْحَالِ، وَالْمُدَبَّرَةُ وَأُمُّ الْوَلَدِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ كَالْأَمَةِ إلَّا أَنَّهَا لَا تَحْتَمِلُ الْبَيْعَ فَتُؤَدِّي الْبَدَلَ مِنْ كَسْبِهَا إذَا الْتَزَمَتْ بِإِذْنِ الْمَوْلَى، فَأَمَّا الْمُكَاتَبَةُ لَا تُؤَاخَذُ بِبَدَلِ الْخُلْعِ إلَّا بَعْدَ الْعِتْقِ سَوَاءٌ اخْتَلَعَتْ بِإِذْنِ الْمَوْلَى، أَوْ بِغَيْرِ إذْنِهِ؛ لِأَنَّ إذْنَ الْمَوْلَى غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي إلْزَامِ الْمَالِ إيَّاهَا، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَوْلَى لَا يَمْلِكُ أَنْ يُلْزِمَهَا الْمَالَ، وَلَا تَأْثِيرَ لِلْكِتَابَةِ فِي فَكِّ الْحَجْرِ عَنْ الْتِزَامِ الْمَالِ بِسَبَبِ الْخُلْعِ؛ فَلِهَذَا تُؤَاخَذُ بِهِ بَعْدَ الْعِتْقِ.
(قَالَ): وَإِذَا وَكَّلَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ صَبِيًّا، أَوْ مَعْتُوهًا، أَوْ مَمْلُوكًا بِالْقِيَامِ مَقَامَهُ بِالْخُلْعِ وَالِاخْتِلَاعِ جَازَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ بِهَذَا الْعَقْدِ سَفِيرٌ مُعَبِّرٌ عَنْ الْمُوَكِّلِ، وَلِهَؤُلَاءِ عِبَارَةٌ مُعْتَبَرَةٌ حَتَّى يَنْفُذَ تَصَرُّفُهُمْ بِإِذْنِ الْمَوْلَى فَيَنْفُذُ الْعَقْدُ بِعِبَارَتِهِمْ أَيْضًا.
(قَالَ): وَإِذَا خَلَعَ الرَّجُلُ ابْنَتَهُ الصَّغِيرَةَ مِنْ زَوْجِهَا عَلَى صَدَاقِهَا وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا فَإِنْ لَمْ يَضْمَنْ الْأَبُ فَهُوَ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ إلْزَامِ الْمَالِ إيَّاهَا بِهَذَا السَّبَبِ إذْ لَا مَنْفَعَةَ لَهَا فِيهِ، وَلَا يَدْخُلُ فِي مِلْكِهَا بِمُقَابَلَةِ شَيْءٍ بِخِلَافِ مَا لَوْ زَوَّجَ ابْنَهُ الصَّغِيرَ بِمَالِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ الْعَقْدَ مِنْ مَصَالِحِهِ، وَيَدْخُلُ فِي مِلْكِهِ شَيْءٌ مُتَقَوِّمٌ بِإِزَاءِ مَا يَلْزَمُهُ مِنْ الْمَالِ فَإِنْ ضَمِنَ الْأَبُ الْمَالَ جَازَ الْخُلْعُ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ يَنْفَرِدُ بِالْإِيقَاعِ، وَاشْتِرَاطُ الْقَبُولِ فِي الْخُلْعِ؛ لِأَجْلِ الْمَالِ، فَإِذَا كَانَ الْأَبُ هُوَ الْمُلْتَزِمَ لِلْمَالِ بِضَمَانِهِ يُتِمُّ الْخُلْعَ كَمَا لَوْ خَالَعَ امْرَأَتَهُ مَعَ أَجْنَبِيٍّ عَلَى مَالٍ، وَضَمِنَ الْأَجْنَبِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ يَقُولُ: تَأْوِيلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إذَا خَالَعَهَا عَلَى مَالٍ مِثْلَ الصَّدَاقِ، فَأَمَّا إذَا خَالَعَهَا عَلَى الصَّدَاقِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَصِحَّ؛ لِأَنَّهُ عَيْنُ مِلْكِهَا.
، وَلَيْسَ لِلْأَبِ وِلَايَةُ إخْرَاجِ عَيْنٍ عَنْ مِلْكِهَا بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَلَا مُعْتَبَرٌ بِضَمَانِهِ فِي ذَلِكَ، وَلَكِنَّا نَقُولُ، وَإِنْ سَمَّى الصَّدَاقَ فِي الْخُلْعِ فَإِنَّمَا يَتَنَاوَلُ الْعَقْدُ مِثْلَهُ، فَضَمَانُ الْأَبِ إيَّاهُ صَحِيحٌ، وَإِسْقَاطُهُ حَقَّهَا فِي نِصْفِ الصَّدَاقِ بَاطِلٌ فَيَغْرَمُ الزَّوْجُ لَهَا نِصْفَ الصَّدَاقِ، كَمَا لَوْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ، وَيَرْجِعُ الزَّوْجُ عَلَى الْأَبِ بِمَا يَضْمَنُ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ضَمِنَ لِلزَّوْجِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ دَخَلَ بِهَا، فَلَهَا أَنْ تَرْجِعَ بِجَمِيعِ مَهْرِهَا عَلَى الزَّوْجِ؛ لِأَنَّ حَقَّهَا فِي جَمِيعِ الْمَهْرِ تَأَكَّدَ بِالدُّخُولِ فَلَا يَمْلِكُ الْأَبُ إبْطَالَ حَقِّهَا عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ، وَلَكِنَّهَا تَرْجِعُ بِالصَّدَاقِ عَلَى الزَّوْجِ، وَالزَّوْجُ عَلَى الْأَبِ بِحُكْمِ الضَّمَانِ، أَوْ تَرْجِعُ عَلَى الْأَبِ بِجَمِيعِ الصَّدَاقِ هُنَا وَبِنِصْفِ الصَّدَاقِ فِي الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الْأَبَ يَصِيرُ كَالْمُعَاوِضِ مَعَ الزَّوْجِ بِمَا ضَمِنَهُ لِلزَّوْجِ مِمَّا لَهَا عَلَيْهِ (قَالَ): وَلَوْ كَانَتْ كَبِيرَةً، فَإِنْ كَانَ خُلْعُ الْأَبِ بِإِذْنِ الْبِنْتِ جَازَ ذَلِكَ عَلَيْهَا، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إذْنِهَا، وَقَدْ ضَمِنَ الْأَبُ لِلزَّوْجِ، فَالْخُلْعُ جَائِزٌ وَتَرْجِعُ هِيَ بِالصَّدَاقِ عَلَى زَوْجِهَا، ثُمَّ الزَّوْجُ عَلَى الْأَبِ بِحُكْمِ ضَمَانِهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ الْمُعَارَضَةِ فِي مَالِهَا.
(قَالَ): وَكُلُّ خُلْعٍ كَانَ بِجُعْلٍ فَامْتَنَعَ وُجُوبُ الْجُعْلِ؛ إمَّا لِفَسَادِهِ كَالْخَمْرِ، أَوْ؛ لِأَنَّ الْمُلْتَزِمَ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِهِ كَالصَّغِيرَةِ فَالْوَاقِعُ بِهِ طَلَاقٌ بَائِنٌ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الْخُلْعِ لَيْسَ بِصَرِيحٍ فِي الطَّلَاقِ، وَلَكِنَّهُ يُشْبِهُ الْفُرْقَةَ كَالْبَيْنُونَةِ، وَالْحُرْمَةِ وَكُلُّ تَطْلِيقَةٍ، أَوْ تَطْلِيقَتَيْنِ بِجُعْلٍ أَبْطَلْتُ الْجُعْلَ وَأَمْضَيْتُ فِيهِ الطَّلَاقَ، فَالطَّلَاقُ رَجْعِيٌّ، إذَا كَانَ قَدْ دَخَلَ بِهَا؛ لِأَنَّ الْوُقُوعَ بِصَرِيحِ لَفْظِ الطَّلَاقِ فَلَا يُوجِبُ الْبَيْنُونَةَ إلَّا بِعِوَضٍ، وَلَمْ يَجِبْ الْعِوَضُ.
(قَالَ): وَلَوْ خَلَعَ ابْنَتَهُ الْكَبِيرَةَ بِصَدَاقِهَا وَضَمِنَهُ لِلزَّوْجِ فَبَلَغَهَا فَأَجَازَتْ لَمْ يَضْمَنْ الْأَبُ شَيْئًا؛ لِأَنَّ إجَازَتَهَا فِي الِانْتِهَاءِ كَإِذْنِهَا فِي الِابْتِدَاءِ، وَكَذَلِكَ لَوْ خَلَعَهَا بِالنَّفَقَةِ وَضَمِنَهَا لَهُ بِغَيْرِ أَمْرِهَا، فَإِنْ أَجَازَتْ، فَلَا شَيْءَ عَلَى الْأَبِ، وَإِنْ أَبَتْ فَلَهَا أَنْ تَتْبَعَ الزَّوْجَ بِالنَّفَقَةِ؛ لِأَنَّهَا حَقُّهَا كَالصَّدَاقِ، فَلَا يَعْمَلُ إسْقَاطُ الْأَبِ لِحَقِّهَا وَيَرْجِعُ الزَّوْجُ عَلَى الْأَبِ بِمَا ضَمِنَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ لَوْ فَعَلَ هَذَا غَيْرُ الْأَبِ مِنْ الْأَقَارِبِ، وَالْأَجَانِبِ؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لِلْأَبِ عَلَيْهَا فِي هَذَا التَّصَرُّفِ فَهُوَ، وَالْأَجْنَبِيُّ فِيهِ سَوَاءٌ.
(قَالَ): وَإِذَا اخْتَلَعَتْ بِمَالٍ وَدَفَعَتْهُ إلَيْهِ، ثُمَّ أَقَامَتْ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا قَبْلَ الْخُلْعِ كَانَ لَهَا أَنْ تَرْجِعَ عَلَيْهِ بِالْمَالِ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ الْبَيْنُونَةَ لَمْ تَحْصُلْ بِمَا الْتَزَمَتْ مِنْ الْمَالِ فَلَا يَكُونُ الْتِزَامُهَا صَحِيحًا، وَإِقْدَامُهَا عَلَى الْخُلْعِ لَا يَمْنَعُهَا مِنْ إقَامَةِ هَذِهِ الْبَيِّنَةِ؛ لِأَنَّ دَعْوَاهَا فِي قَبُولِ الْبَيِّنَةِ عَلَى الطَّلَاقِ لَيْسَ بِشَرْطٍ، فَالتَّنَاقُضُ مِنْهَا لَا يَمْنَعُ قَبُولَ الْبَيِّنَةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَامَتْ الْبَيِّنَةَ عَلَى حُرْمَةٍ بِنَسَبٍ أَوْ رَضَاعٍ، أَوْ مُصَاهَرَةٍ.
(قَالَ): وَإِذَا قَالَتْ الْمَرْأَةُ: اخْلَعْنِي، وَلَك أَلْفِ دِرْهَمٍ، أَوْ قَالَتْ طَلِّقْنِي، وَلَك أَلْفُ دِرْهَمٍ، فَفَعَلَ وَقَعَ الطَّلَاقُ، وَلَمْ يَجِبْ الْمَالُ عَلَيْهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يَجِبُ الْمَالُ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْوَاوَ، وَإِنْ كَانَ لِلْعَطْفِ حَقِيقَةً، فَقَدْ يُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى الْبَاءِ مَجَازًا كَمَا فِي الْقَسَمِ، فَإِنَّ قَوْلَهُ: وَاَللَّهِ كَقَوْلِهِ بِاَللَّهِ فَقَوْلُهَا وَلَك أَلْفٌ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهَا: طَلِّقْنِي بِأَلْفٍ، أَوْ بِعْنِي طَلَاقِي بِأَلْفٍ، وَإِنَّمَا حَمَلْنَاهُ عَلَى هَذَا الْمَجَازِ؛ لِمَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ؛ لِأَنَّ الْخُلْعَ مُعَاوَضَةٌ، وَفِي الْمُعَاوَضَاتِ لَا يُعْطَفُ أَحَدُ الْعِوَضَيْنِ عَلَى الْآخَرِ، إنَّمَا يُلْصَقُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ: احْمِلْ هَذَا الْمَتَاعَ إلَى بَيْتِي وَلَك دِرْهَمٌ كَانَ هَذَا، وَقَوْلُهُ: احْمِلْهُ بِدِرْهَمٍ سَوَاءٌ حَتَّى يَجِبَ الْمَالُ إذَا حَمَلَهُ؛ وَلِأَنَّ هَذَا الْوَاوَ بِمَعْنَى وَاوِ الْحَالِ، كَقَوْلِ الْمَوْلَى لِعَبْدِهِ: أَدِّ إلَيَّ أَلْفًا، وَأَنْتَ حُرٌّ، وَقَوْلِ الْغَازِي لِلْمَحْصُورِ: افْتَحْ الْبَابَ، وَأَنْتَ آمِنٌ.
وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا سَبَقَ أَنَّ الْوَاوَ قَدْ تَكُونُ لِلْحَالِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ وَأَنْتِ مَرِيضَةٌ، وَإِذَا كَانَتْ لِلْحَالِ كَانَتْ هِيَ مُلْتَزِمَةٌ الْمَالَ لَهُ حَالَ إيقَاعِ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا عِوَضًا وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: الْوَاوُ لِلْعَطْفِ حَقِيقَةً، وَالْحَمْلُ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَاجِبٌ حَتَّى يَقُومَ الدَّلِيلُ عَلَى الْمَجَازِ، وَبِاعْتِبَارِ الْعَطْفِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْأَلْفَ لَيْسَ بِعِوَضٍ عَنْ الطَّلَاقِ، وَلَا وَجْهَ لِحَمْلِهَا عَلَى الْبَاءِ، أَوْ وَاوِ الْحَالِ؛ لِمَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ؛ لِأَنَّ الْمَالَ فِي الطَّلَاقِ نَادِرٌ، وَالْمُعْتَادُ فِيهِ الْإِيقَاعُ بِغَيْرِ عِوَضٍ بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ، فَالْعِوَضُ فِيهِ أَصْلٌ لَا تَصِحُّ الْإِجَارَةُ بِدُونِهِ، وَبِخِلَافِ قَوْلِهِ: أَدِّ إلَيَّ أَلْفًا، وَأَنْتَ حُرٌّ؛ لِأَنَّ أَوَّلَ كَلَامِهِ هُنَاكَ غَيْرُ مُفِيدٍ شَرْعًا إلَّا بِآخِرِهِ، فَإِنَّهُ يَصِيرُ بِهِ تَعْلِيقًا لِلْعِتْقِ بِأَدَاءِ الْمَالِ، وَهُنَا أَوَّلُ الْكَلَامِ إنْ صَدَرَ مِنْ الزَّوْجِ، بِأَنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ، وَعَلَيْك أَلْفُ دِرْهَمٍ كَانَ إيقَاعًا مُفِيدًا دُونَ آخِرِهِ، فَلَا حَاجَةَ إلَى أَنْ يَحْمِلَهُ عَلَى الْحَالِ، وَإِنْ صَدَرَ مِنْهَا فَهُوَ الْتِمَاسٌ مُفِيدٌ أَيْضًا؛ فَلِهَذَا لَا يُحْمَلُ عَلَى وَاوِ الْحَالِ، بَلْ هُوَ بِمَعْنَى الْعَطْفِ، فَمَعْنَاهُ وَلَك أَلْفُ دِرْهَمٍ فِي بَيْتِك، أَوْ بِمَعْنَى الِابْتِدَاءِ، فَيَكُونُ وَعْدًا مِنْهَا إيَّاهُ بِالْمَالِ، وَالْمَوَاعِيدُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا اللُّزُومُ؛ وَلِأَنَّ أَدْنَى مَا يَكُونُ فِي الْبَابِ أَنْ يَكُونَ حَرْفُ الْوَاوِ مُحْتَمِلًا لِجَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا، فَالْمَالُ بِالشَّكِّ لَا يَجِبُ.
.
(قَالَ): وَإِذَا قَالَتْ: طَلِّقْنِي، وَلَك أَلْفُ دِرْهَمٍ، فَقَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ عَلَى هَذِهِ الْأَلْفِ الَّتِي سَمَّيْتِ.
فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى الطَّلَاقُ وَاقِعٌ، وَالْمَالُ عَلَيْهَا قَبِلَتْ، أَوْ لَمْ تَقْبَلْ؛ لِأَنَّهَا بِالْكَلَامِ الْأَوَّلِ مُلْتَزِمَةٌ لِلْمَالِ عِنْدَهُمَا فَبَقِيَ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْكَلَامِ الْأَوَّلِ لَمْ تَكُنْ مُلْتَزِمَةً لِلْمَالِ، فَبَقِيَ إيقَاعُ الزَّوْجِ عَلَيْهَا بِمَالٍ ابْتِدَاءً، فَإِنْ قَبِلَتْ وَقَعَ الطَّلَاقُ، وَلَزِمَهَا الْمَالُ، وَإِنْ لَمْ تَقْبَلْ لَا يَقَعْ عَلَيْهَا شَيْءٌ، وَلَوْ قَالَتْ: طَلِّقْنِي ثَلَاثًا عَلَى أَنَّ لَك عَلَيَّ أَلْفَ دِرْهَمٍ، فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا لَزِمَهَا الْمَالُ؛ لِأَنَّهَا صَرَّحَتْ بِحَرْفِ عَلَى، وَهُوَ لِالْتِزَامِ الْمَالِ، وَلَوْ كَانَ طَلَّقَهَا اثْنَتَيْنِ قَبْلَ هَذَا، فَقَالَتْ: طَلِّقْنِي ثَلَاثًا عَلَى أَنَّ لَك أَلْفًا فَطَلَّقَهَا وَاحِدَةً لَزِمَهَا الْأَلْفُ؛ لِأَنَّ الْأَلْفَ بِإِزَاءِ مَا يَصِحُّ فِيهِ الْتِمَاسُهَا مِنْ الزَّوْجِ، وَذَلِكَ إيقَاعُ مَا لَيْسَ بِوَاقِعٍ، وَهِيَ التَّطْلِيقَةُ الثَّالِثَةُ، فَأَمَّا إيقَاعُ مَا هُوَ وَاقِعٌ لَا يَتَحَقَّقُ، فَكَانَ تَكَلُّمُهَا بِهِ لَغْوًا غَيْرَ مُعْتَدٍّ بِهِ؛ وَلِأَنَّهَا الْتَزَمَتْ الْمَالَ؛ لِحُصُولِ الْبَيْنُونَةِ الْغَلِيظَةِ لَهَا، وَقَدْ تَمَّ ذَلِكَ بِإِيقَاعِ الثَّالِثَةِ.
(قَالَ): وَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ: طَلَّقْتُك أَمْسِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ أَوْ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ فَلَمْ تَقْبَلِي، وَقَالَتْ: قَدْ قَبِلْتُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ إيجَابَ الطَّلَاقِ بِمَالٍ تَعْلِيقٌ بِقَبُولِهَا، فَالزَّوْجُ أَقَرَّ بِالتَّعْلِيقِ وَأَنْكَرَ وُجُودَ الشَّرْطِ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ كَمَا لَوْ عَلَّقَ بِدُخُولِهَا، فَقَالَتْ قَدْ دَخَلْت وَأَنْكَرَ الزَّوْجُ ذَلِكَ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْبَيْعِ إذْ قَالَ: قَدْ بِعْتُ مِنْك هَذَا الْعَبْدَ أَمْسِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَلَمْ تَقْبَلْ، وَقَالَ الْمُشْتَرِي: قَدْ قَبِلْتُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ لَا يَنْعَقِدُ إلَّا بِإِيجَابٍ وَقَبُولٍ، فَإِقْرَارُهُ بِالْبَيْعِ يَكُونُ إقْرَارًا بِقَبُولِ الْمُشْتَرِي، فَلَا يَعْمَلُ رُجُوعُهُ عَنْ الْإِقْرَارِ بَعْدَ ذَلِكَ، فَأَمَّا إيجَابُ الطَّلَاقِ بِمَالٍ يَكُونُ تَصَرُّفًا عِنْدَ الْإِيقَاعِ، وَهُوَ التَّعْلِيقُ بِمَنْزِلَةِ الْيَمِينِ؛ وَلِهَذَا لَا يَبْطُلُ بِقِيَامِهِ قَبْلَ قَبُولِهَا، فَلَمْ يَكُنْ هُوَ مُقِرًّا بِالْإِيقَاعِ أَصْلًا فَجَعَلْنَا الْقَوْلَ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ لِهَذَا.
(قَالَ): وَإِذَا قَالَ لَهَا: قَدْ طَلَّقْتُك وَاحِدَةً بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، وَقَبِلَتْ، وَقَالَتْ هِيَ: إنَّمَا سَأَلْتُك أَنْ تُطَلِّقَنِي ثَلَاثًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، وَإِنَّمَا طَلَّقْتَنِي وَاحِدَةً، فَإِنَّمَا لَك ثُلُثُ الْأَلْفِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهَا؛ لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى وُقُوعِ الْوَاحِدَةِ عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا تَنَازَعَا فِي الْمَالِ، فَهُوَ يَدَّعِي الزِّيَادَةَ عَلَيْهَا، وَهِيَ تُنْكِرُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا.
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَتْ: سَأَلْتُك: أَنْ تُطَلِّقَنِي بِمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَقَالَ الزَّوْجُ: بَلْ بِأَلْفٍ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي مِقْدَارِ الْمَالِ الْوَاجِبِ عَلَيْهَا، فَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ، فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّهُ يُثْبِتُ الزِّيَادَةَ بِبَيِّنَتِهِ فِي حَقِّهِ، وَالْبَيِّنَةُ لِلْإِثْبَاتِ فَتَتَرَجَّحُ بِالزِّيَادَةِ فِيهِ.
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَتْ: خَلَعْتَنِي بِغَيْرِ شَيْءٍ، وَقَالَ الزَّوْجُ: بَلْ بِأَلْفٍ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا، وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الزَّوْجِ: لِمَا قُلْنَا.
(قَالَ): وَإِذَا اتَّفَقَا عَلَى أَنَّهَا سَأَلَتْ أَنْ يُطَلِّقَهَا ثَلَاثًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، فَقَالَتْ: طَلَّقَنِي وَاحِدَةً، وَقَالَ الزَّوْجُ: طَلَّقْتُك ثَلَاثًا، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ إنْ كَانَ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ؛ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ بِمَا يَمْلِكُ إنْشَاءَهُ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَوْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا مُتَفَرِّقَاتٍ فِي الْمَجْلِسِ يَلْزَمُهَا الْأَلْفُ فَلَا تَتَمَكَّنُ التُّهْمَةُ فِي خَبَرِهِ.
(قَالَ): أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ طَالِقٌ حَصَلَتْ لَهُ جَمِيعُ الْأَلْفِ، فَإِنْ كَانَا قَدْ افْتَرَقَا مِنْ ذَلِكَ الْمَجْلِسِ، لَزِمَهَا الطَّلَاقُ إنْ كَانَتْ فِي الْعِدَّةِ؛ لِإِقْرَارِ الزَّوْجِ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا، وَهُوَ مَالِكٌ لِلْإِيقَاعِ، وَلَا يَكُونُ عَلَيْهَا إلَّا ثُلُثُ الْأَلْفِ؛ لِأَنَّهُ فِي حَقِّ الْمَالِ مُتَّهَمٌ فِي خَبَرِهِ، فَإِنَّهُ يُخْبِرُ بِمَا يَمْلِكُ إنْشَاءَهُ، فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهَا مَعَ يَمِينِهَا، وَعَلَيْهِ إثْبَاتُ الزِّيَادَةِ بِالْبَيِّنَةِ.
(قَالَ): وَإِذَا قَالَتْ الْمَرْأَةُ: سَأَلْتُك أَنْ تُطَلِّقَنِي ثَلَاثًا عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ فَطَلِّقْنِي وَاحِدَةً، وَلَا شَيْءَ لَك، وَقَالَ هُوَ: بَلْ سَأَلْتِنِي وَاحِدَةً عَلَى أَلْفٍ، وَقَدْ طَلَّقْتُكَهَا، فَالْقَوْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُ الْمَرْأَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهَا تُنْكِرُ وُجُوبَ الْمَالِ بِنَاءً عَلَى مَا تَقَدَّمَ إذَا قَالَتْ: طَلِّقْنِي ثَلَاثًا عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَطَلَّقَهَا وَاحِدَةً لَا يَجِبُ عَلَيْهَا شَيْءٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَإِنْ قَالَتْ: سَأَلْتُك أَنْ تُطَلِّقَنِي ثَلَاثًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، فَلَمْ تُطَلِّقْنِي فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ، وَقَالَ الزَّوْجُ: قَدْ طَلَّقْتُك ثَلَاثًا فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ، فَالثَّلَاثُ وَاقِعَاتٌ عَلَيْهَا؛ لِإِقْرَارِ الزَّوْجِ بِهَا، وَالْقَوْلُ فِي الْمَال قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهَا: إمَّا لِإِنْكَارِهَا وُجُوبَ الْمَالِ، أَوْ لِإِنْكَارِهَا الزِّيَادَةَ عَلَى الثَّلَاثِ، إنْ أَقَرَّتْ أَنَّهُ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ، وَإِنْ قَالَتْ: سَأَلْتُك أَنْ تُطَلِّقَنِي أَنَا وَصَاحِبَتِي فُلَانَةَ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ فَطَلَّقْتَنِي وَحْدِي، وَقَالَ الزَّوْجُ طَلَّقْتُهَا مَعَكِ، وَقَدْ افْتَرَقَا مِنْ ذَلِكَ الْمَجْلِسِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَرْأَةِ، وَعَلَيْهَا حِصَّتُهَا مِنْ الْأَلْفِ؛ لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ بَيْنَهُمَا فِي مِقْدَارِ مَا عَلَيْهَا مِنْ الْمَالِ، وَالزَّوْجُ مُخْبِرُ بِمَا لَا يَمْلِكُ إنْشَاءَهُ فِي حَقِّ الْمَالِ، وَلَكِنَّ الطَّلَاقَ وَاقِعٌ عَلَى الْأُخْرَى بِإِقْرَارِ الزَّوْجِ؛ لِأَنَّهُ يَنْفَرِدُ بِالْإِيقَاعِ عَلَيْهَا، وَكَذَلِكَ إنْ قَالَتْ لَمْ تُطَلِّقْنِي، وَلَا صَاحِبَتِي فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهَا؛ لِإِنْكَارِهَا أَصْلَ الْمَالِ، وَعَلَى الزَّوْجِ أَنْ يُثْبِتَ الْمَالَ بِالْبَيِّنَةِ، وَلَكِنَّ الطَّلَاقَ وَاقِعٌ عَلَيْهَا بِإِقْرَارِ الزَّوْجِ.
(قَالَ): وَإِذَا خَلَعَ الرَّجُلُ امْرَأَتَيْهِ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ فَإِنَّ الْأَلْفَ تَنْقَسِمُ عَلَى مَهْرَيْهِمَا الَّذِي تَزَوَّجَهُمَا عَلَيْهِمَا؛ لِأَنَّهُ سَمَّى الْأَلْفَ بِمُقَابَلَةِ شَيْئَيْنِ، وَمُقْتَضَى هَذِهِ التَّسْمِيَةِ الِانْقِسَامُ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ، كَمَا لَوْ اشْتَرَى عَبْدَيْنِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ إلَّا أَنَّ الْبُضْعَ عِنْدَ خُرُوجِهِ مِنْ مِلْكِ الزَّوْجِ غَيْرُ مُتَقَوِّمٍ فَوَجَبَ الْمَصِيرُ إلَى أَقْرَبِ الْأَشْيَاءِ إلَيْهِ، وَذَلِكَ الْمَهْرُ الَّذِي تَزَوَّجَهَا عَلَيْهِ.
أَلَا تَرَى أَنَّ فِي الْكِتَابَةِ الْفَاسِدَةِ عَلَى الْعَبْدِ قِيمَةَ نَفْسِهِ بَعْدَمَا يَعْتِقُ؛ لِأَنَّ مَا هُوَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ هُوَ مِلْكُ الْيَدِ، وَالْمَكَاسِبُ لَيْسَتْ بِمُقَوَّمَةٍ، فَيُصَارُ إلَى قِيمَةِ أَقْرَبِ الْأَشْيَاءِ إلَيْهِ، وَهُوَ الرَّقَبَةُ، ثُمَّ الْأَصْلُ فِي الْخُلْعِ أَنَّ النُّشُوزَ إذَا كَانَ مِنْ الزَّوْجِ، فَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا شَيْئًا بِإِزَاءِ الطَّلَاقِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِنْ أَرَدْتُمْ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ} إلَى أَنْ قَالَ: {فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا}، وَإِنْ كَانَ النُّشُوزُ مِنْ قِبَلِهَا، فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا بِالْخُلْعِ مِقْدَارَ مَا سَاقَ إلَيْهَا مِنْ الصَّدَاقِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ}، وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا زِيَادَةً عَلَى مَا سَاقَ إلَيْهَا، فَذَلِكَ مَكْرُوهٌ فِي رِوَايَةِ الطَّلَاقِ، وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ يَقُولُ: لَا بَأْسَ بِذَلِكَ.
وَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ مَا رُوِيَ «أَنَّ جُمَيْلَةَ بِنْتَ سَلُولَ رَحِمَهَا اللَّهُ تَعَالَى كَانَتْ تَحْتَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَجَاءَتْ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ لَا أَعِيبُ عَلَى ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ فِي دِينٍ وَلَا خُلُقٍ، وَلَكِنِّي أَخْشَى الْكُفْرَ فِي الْإِسْلَامِ لِشِدَّةِ بُغْضِي إيَّاهُ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ، فَقَالَتْ: نَعَمْ وَزِيَادَةً، فَقَالَ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَّا الزِّيَادَةُ، فَلَا، وَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ لِثَابِتٍ: اخْلَعْهَا بِالْحَدِيقَةِ، وَلَا تَزْدَدْ»؛ وَلِأَنَّهُ لَا يُمَلِّكُهَا شَيْئًا، إنَّمَا يَرْفَعُ الْعَقْدَ فَيَحِلُّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا قَدْرَ مَا سَاقَ إلَيْهَا بِالْعَقْدِ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ الزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ، وَوَجْهُ رِوَايَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ مَا رُوِيَ أَنَّ امْرَأَةً نَاشِزَةً أُتِيَ بِهَا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَحَبَسَهَا فِي مَزْبَلَةٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ دَعَاهَا، وَقَالَ: كَيْفَ وَجَدْتِ مَبِيتَك، فَقَالَتْ: مَا مَضَتْ عَلَيَّ لَيَالٍ هُنَّ أَقَرُّ لِعَيْنِي مِنْ هَذِهِ اللَّيَالِي؛ لِأَنِّي لَمْ أَرَهُ، فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَهَلْ يَكُونُ النُّشُوزُ إلَّا هَكَذَا اخْلَعْهَا، وَلَوْ بِقُرْطِهَا، وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ مَوْلَاةً اخْتَلَعَتْ بِكُلِّ شَيْءٍ لَهَا فَلَمْ يَعِبْ ذَلِكَ عَلَيْهَا، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَوْ اخْتَلَعَتْ بِكُلِّ شَيْءٍ لَأَجَزْتُ ذَلِكَ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ جَوَازَ أَخْذِ الْمَالِ هُنَا بِطَرِيقِ الزَّجْرِ لَهَا عَنْ النُّشُوزِ؛ وَلِهَذَا لَا يَحِلُّ إذَا كَانَ النُّشُورُ مِنْ الزَّوْجِ، وَهَذَا لَا يَخْتَصُّ بِمَا سَاقَ إلَيْهَا مِنْ الْمَهْرِ دُونَ غَيْرِهِ.
فَأَمَّا فِي الْحُكْمِ الْخُلْعُ صَحِيحٌ، وَالْمَالُ وَاجِبٌ فِي جَمِيعِ الْفُصُولِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ نُفَاةِ الْقِيَاسِ لَا يَجِبُ الْمَالُ إذَا كَانَ النُّشُوزُ مِنْ الزَّوْجِ، وَلَا تَجِبُ الزِّيَادَةُ إذَا كَانَ النُّشُوزُ مِنْهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا} إلَى أَنْ قَالَ: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا}، وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ يَعْنِي فِي الزِّيَادَةِ، وَالِاعْتِدَاءُ يَكُونُ ظُلْمًا، وَالْمَالُ لَا يَجِبُ بِالظُّلْمِ، وَلَكِنَّا نَسْتَدِلُّ بِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْآثَارِ، وَتَأْوِيلُ الْآيَةِ فِي الْحِلِّ، وَالْحُرْمَةِ، لَا فِي مَنْعِ وُجُوبِ أَصْلِ الْمَالِ.
.
(قَالَ): وَإِذَا قَالَتْ الْمَرْأَةُ لِزَوْجِهَا: إنْ طَلَّقْتَنِي ثَلَاثًا فَلَكَ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ، فَقَالَ: نَعَمْ سَأُطَلِّقُك، فَلَا شَيْءَ لَهُ حَتَّى يَفْعَلَ؛ لِأَنَّهَا الْتَزَمَتْ الْمَالَ بِمُقَابَلَةِ الْإِيقَاعِ دُونَ الْوَعْدِ، فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ فِي الْمَجْلِسِ فَلَهُ الْأَلْفُ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فِي الْمَجْلِسِ، فَلَا شَيْءَ لَهُ وَالطَّلَاقُ وَاقِعٌ؛ لِأَنَّ الَّذِي مِنْ جِهَتِهَا الْتِزَامُ الْمَالِ بِمَنْزِلَةِ إيجَابِ الْبَيْعِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى مَا وَرَاءَ الْمَجْلِسِ، وَلَكِنْ يَبْطُلُ بِالْقِيَامِ عَنْ الْمَجْلِسِ قَبْل الْإِيقَاعِ فَإِذَا أَوْقَعَ الطَّلَاقَ بَعْدَ ذَلِكَ مُطْلَقًا وَقَعَ الطَّلَاقُ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ يَنْفَرِدُ بِهِ، وَكَلَامُهَا، وَإِنْ كَانَ شَرْطًا فِي الصُّورَةِ فَفِي الْمَعْنَى الْتِزَامُ الْعِوَضِ؛ لِأَنَّ الْتِزَامَ الْمَالِ لَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ، فَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ: إنْ عَمِلْت لِي هَذَا الْعَمَلَ فَلَكَ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ يَكُونُ الْتِزَامًا لِلْعِوَضِ بِطَرِيقِ الْإِجَارَةِ.
(قَالَ): وَلَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إذَا أَعْطَيْتِنِي أَلْفًا، أَوْ مَتَى أَعْطَيْتِنِي أَلْفًا، فَهِيَ امْرَأَتُهُ عَلَى حَالِهَا حَتَّى تُعْطِيَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ الطَّلَاقَ بِشَرْطِ إعْطَاءِ الْمَالِ، فَلَا يَقَعُ بِدُونِهِ، وَمَتَى أَعْطَتْهُ فِي الْمَجْلِسِ، أَوْ بَعْدَهُ، فَالطَّلَاقُ وَاقِعٌ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ إذَا وَمَتَى لِلْوَقْتِ فَمَعْنَى قَوْلِهِ: إذَا أَعْطَيْتِنِي فِي الْوَقْتِ الَّذِي تُعْطِينَنِي، وَلَيْسَ لِلزَّوْجِ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْهُ إذَا أَتَتْهُ بِهِ لَا أَنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى الْقَبُولِ، وَلَكِنْ إذَا وَضَعَتْهُ بَيْنَ يَدَيْهِ طَلُقَتْ، وَهُوَ اسْتِحْسَانٌ، وَفِي الْقِيَاسِ لَا تَطْلُقُ حَتَّى يَقْبَلَهُ الزَّوْجُ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَأَصْلُهُ فِي الْعَتَاقِ، إذَا قَالَ لِعَبْدِهِ: إذَا أَدَّيْتَ إلَيَّ أَلْفًا فَأَنْتَ حُرٌّ.
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ الْحَالِفَ لَا يُجْبَرُ عَلَى إيجَادِ الشَّرْطِ، وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ كَلَامَهُ تَعْلِيقٌ بِالشَّرْطِ صُورَةً، وَإِيجَابٌ لِلطَّلَاقِ بِعِوَضٍ مَعْنَى حَتَّى إذَا قَبِلَ الْمَالَ كَانَ الْوَاقِعُ بَائِنًا، وَلَوْ وَجَدَهُ زُيُوفًا كَانَ لَهُ أَنْ يَرُدَّ، وَيَسْتَبْدِلَ، وَهَذَا حُكْمُ الْمُعَاوَضَةِ، وَالْمُلْتَزِمُ لِلْعِوَضِ، إذَا خَلَّى بَيْنَ صَاحِبَهُ، وَبَيْنَ الْمَالِ يَصِيرُ قَابِضًا، فَبِاعْتِبَارِ الشَّرْطِ قُلْنَا: لَا حَاجَةَ إلَى قَبُولِهَا فِي الْمَجْلِسِ، وَبِاعْتِبَارِ الْمُعَاوَضَةِ قُلْنَا: إذَا وَضَعَتْ الْمَالَ بَيْنَ يَدَيْهِ طَلُقَتْ، وَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَرْجِعَ بِشَيْءٍ مِنْهُ؛ لِأَنَّهَا أَدَّتْ الْمَالَ عِوَضًا عَنْ الطَّلَاقِ، وَقَدْ سَلَّمَ لَهَا.
(قَالَ): وَلَوْ كَانَ قَالَ لَهَا: إنْ جِئْتِنِي بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ وَقَعَ الطَّلَاقُ، وَإِنْ تَفَرَّقَا قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَهُ بِهِ بَطَلَ هَذَا الْقَوْلُ؛ لِأَنَّ كَلَامَ الزَّوْجِ تَعْلِيقٌ بِالشَّرْطِ، فَيَتِمُّ بِهِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَى قَبُولِهَا، وَلَكِنَّهَا تَتَمَكَّنُ مِنْ أَدَاءِ الْمَالِ فِي الْمَجْلِسِ، فَقِيَامُهَا قَبْلَ الْأَدَاءِ يَكُونُ مُبْطِلًا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: إنْ شِئْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، وَهُمَا سَوَاءٌ فِي الْمَعْنَى إلَّا أَنَّ ذَلِكَ تَمْلِيكُ الْأَمْرِ مِنْهَا بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَهَذَا تَمْلِيكُ الْأَمْرِ مِنْهَا بِعِوَضٍ، فَكَمَا يَبْطُلُ هُنَاكَ بِقِيَامِهَا عَنْ الْمَجْلِسِ قَبْلَ الْمَشِيئَةِ يَبْطُلُ هُنَا بِقِيَامِهَا قَبْلَ الْأَدَاءِ.
(قَالَ): وَإِنْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ عَلَى أَنْ تُعْطِيَنِي أَلْفَ دِرْهَمٍ، أَوْ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَهُوَ سَوَاءٌ، فَإِنْ قَبِلَتْ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ، وَقَعَ عَلَيْهَا الطَّلَاقُ، وَالْمَالُ دَيْنٌ عَلَيْهَا تُؤْخَذُ بِهِ؛ لِأَنَّ كَلَامَ الزَّوْجِ إيجَابٌ لِلطَّلَاقِ بِجُعْلٍ، وَلَيْسَ بِتَعْلِيقٍ بِشَرْطِ الْإِعْطَاءِ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَقُولُ لِغَيْرِهِ: بِعْتُ مِنْك هَذَا الْعَبْدَ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ، أَوْ عَلَى أَنْ تُعْطِيَنِي أَلْفَ دِرْهَمٍ يَكُونُ إيجَابًا، لَا تَعْلِيقًا، فَإِذَا وُجِدَ الْقَبُولُ فِي الْمَجْلِسِ وَقَعَ الطَّلَاقُ وَوَجَبَ الْمَالُ عَلَيْهَا بِخِلَافِ قَوْلِهِ: إنْ جِئْتنِي، أَوْ إذَا أَعْطَيْتنِي، فَإِنَّ هُنَاكَ قَدْ صَرَّحَ بِالتَّعْلِيقِ بِالشَّرْطِ فَمَا لَمْ يُوجَدْ الشَّرْطُ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى الْفَرْقِ أَنَّ هُنَاكَ لَوْ كَانَ لَهَا عَلَى الزَّوْجِ أَلْفٌ، فَاتَّفَقَا عَلَى جَعْلِ الْأَلْفِ قِصَاصًا بِمَا عَلَيْهِ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ، وَهُنَا يَصِيرُ قِصَاصًا بِالدَّيْنِ الَّذِي لَهَا عَلَيْهِ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ الْحُكْمُ بِالْقَبُولِ مَعَ التَّصْرِيحِ بِالْإِعْطَاءِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ}، وَبِالْقَبُولِ يَثْبُتُ حُكْمُ الذِّمَّةِ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْحُكْمَ هُنَا يَتَعَلَّقُ بِقَبُولِ الْمَالِ يُشْتَرَطُ الْقَبُولُ مِنْهَا فِي الْمَجْلِسِ، فَإِذَا لَمْ تَقْبَلْ حَتَّى قَامَتْ، فَهُوَ بَاطِلٌ، وَفِيمَا تَقَدَّمَ لَمَّا كَانَ الْإِعْطَاءُ شَرْطًا فَبِجَعْلِهِ قِصَاصًا بِمَا عَلَيْهِ لَا يَصِيرُ الشَّرْطُ مَوْجُودًا قَبْلَ الْإِعْطَاءِ، وَالْمُقَاصَّةُ بَيْنَ دَيْنَيْنِ وَاجِبَيْنِ فَفِي قَوْلِهِ: إذَا أَعْطَيْتنِي الْمَالَ، الْمَالُ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَيْهَا، فَلَا يَصِيرُ قِصَاصًا.
وَفِي قَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ عَلَى أَنْ تُعْطِيَنِي الْمَالَ يَجِبُ عَلَيْهَا بِالْقَبُولِ فَيَصِيرُ قِصَاصًا، فَإِذَا لَمْ يَصِرْ قِصَاصًا فِي قَوْلِهِ: إذَا أَعْطَيْتنِي، فَرَضِيَ الزَّوْجُ أَنْ يُوقِعَ عَلَيْهَا طَلَاقًا مُسْتَقْبَلًا بِالْأَلْفِ الَّتِي لَهَا عَلَيْهِ، فَذَلِكَ جَائِزٌ إذَا قَبِلَتْ، وَكَانَ هَذَا مِنْهُ لَهَا إيجَابًا مُبْتَدَأً.
(قَالَ): وَإِنْ كَانَ لِلرَّجُلِ امْرَأَتَانِ فَسَأَلَتَاهُ أَنْ يُطَلِّقَهُمَا عَلَى أَلْفٍ، أَوْ بِأَلْفٍ، فَطَلَّقَ إحْدَاهُمَا لَزِمَ الْمُطَلَّقَةَ حِصَّتُهَا مِنْ الْأَلْفِ، أَمَّا فِي حَرْفِ الْبَاءِ، فَلِأَنَّهُمَا جَعَلَتَا الْأَلْفَ بَدَلًا عَنْ طَلَاقِهَا، فَإِذَا طَلَّقَ إحْدَاهُمَا، فَعَلَيْهَا حِصَّتُهَا، وَكَذَلِكَ فِي حَرْفِ عَلَى؛ لِأَنَّهُ لَا مَنْفَعَةَ لَهَا فِي طَلَاقِ الضَّرَّةِ حَتَّى يُجْعَلَ شَرْطًا؛ وَلِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِي الْبَابِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا الْتَزَمَتْ حِصَّتَهَا مِنْ الْأَلْفِ بِشَرْطِ أَنْ يُطَلِّقَ صَاحِبَتَهَا، وَإِذَا أَبَى كَانَ هَذَا شَرْطًا فَاسِدًا إلَّا أَنَّ الْخُلْعَ لَا يَبْطُلُ بِالشَّرْطِ الْفَاسِدِ كَالنِّكَاحِ، فَإِنْ طَلَّقَ الْأُخْرَى فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ أَيْضًا لَزِمَتْهَا حِصَّتُهَا مِنْ الْمَالِ، فَإِنَّ الْمَجْلِسَ الْوَاحِدَ يَجْمَعُ الْكَلِمَاتِ الْمُتَفَرِّقَةَ، فَكَانَ هَذَا، وَمَا لَوْ طَلَّقَهَا بِكَلَامٍ وَاحِدٍ سَوَاءٌ، وَإِنْ افْتَرَقُوا قَبْلَ أَنْ يُطَلِّقَ وَاحِدَةً مِنْهُمَا بَطَلَ إيجَابُهُمَا بِالِافْتِرَاقِ، فَإِذَا طَلَّقَهُمَا بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ الطَّلَاقُ وَاقِعًا بِغَيْرِ بَدَلٍ.
.
(قَالَ): وَإِذَا ادَّعَتْ الْمَرْأَةُ الْخُلْعَ، وَأَنْكَرَهُ الزَّوْجُ، فَأَقَامَتْ شَاهِدَيْنِ: شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِالْخُلْعِ بِأَلْفٍ، وَالْآخَرُ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ، فَالشَّهَادَةُ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّهَا تَدَّعِي أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ لَا مَحَالَةَ، فَتَكُونُ مُكَذِّبَةً لِلشَّاهِدِ الْآخَرِ؛ وَلِأَنَّ الْخُلْعَ فِي جَانِبِهَا قِيَاسُ الْبَيْعِ، وَشُهُودُ الْبَيْعِ إذَا اخْتَلَفُوا فِي جِنْسِ الثَّمَنِ، أَوْ فِي مِقْدَارِهِ بَطَلَتْ الشَّهَادَةُ، فَكَذَلِكَ هُنَا إذَا اخْتَلَفَا فِي جِنْسِ الْجُعْلِ كَالْعَرَضِ، وَالْعَبْدِ، أَوْ كَالْعَرَضِ وَالدَّرَاهِمِ، فَالشَّهَادَةُ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَهِدَ بِالطَّلَاقِ لِعِوَضٍ آخَرَ، وَلَا يُمْكِنُ إيجَابُ وَاحِدٍ مِنْ الْعِوَضَيْنِ عَلَيْهَا، فَلَوْ حَكَمَ بِالطَّلَاقِ لَحَكَمَ بِالطَّلَاقِ بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَقَدْ اتَّفَقَا أَنَّ الزَّوْجَ مَا أَوْقَعَ الطَّلَاقَ بِغَيْرِ عِوَضٍ.
(قَالَ): وَلَوْ كَانَ الزَّوْجُ هُوَ الْمُدَّعِيَ لِلْخُلْعِ، وَالْمَرْأَةُ مُنْكِرَةٌ فَشَهِدَ أَحَدُ الشَّاهِدَيْنِ بِأَلْفِ، وَالْآخَرُ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ، فَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ يَدَّعِي أَلْفًا وَخَمْسِمِائَةٍ جَازَتْ شَهَادَتُهُمَا عَلَى الْأَلْفِ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ قَدْ وَقَعَ بِإِقْرَارِ الزَّوْجِ بَقِيَ مِنْهُ دَعْوَى الْمَالِ، وَمَنْ ادَّعَى عَلَى غَيْرِهِ أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ، فَشَهِدَ لَهُ شَاهِدَانِ: شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِأَلْفٍ، وَالْآخَرُ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا عَلَى الْأَلْفِ؛ لِاتِّفَاقِ الشَّاهِدَيْنِ عَلَيْهَا لَفْظًا وَمَعْنَى، فَإِنْ ادَّعَى الزَّوْجُ الْأَلْفَ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمَا؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ قَدْ كَذَّبَ أَحَدَ شَاهِدَيْهِ، وَهُوَ الَّذِي شَهِدَ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ، وَالْمُدَّعِي إذَا أَكْذَبَ شَاهِدَهُ بَطَلَتْ شَهَادَتُهُ لَهُ، وَالطَّلَاقُ وَاقِعٌ بِإِقْرَارِهِ، وَكَذَلِكَ إذَا اخْتَلَفَا فِي جِنْسِ الْجُعْلِ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ مُكَذِّبٌ لِأَحَدِهِمَا لَا مَحَالَةَ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَدَّعِيَ أَحَدَ الْجِنْسَيْنِ.
فَإِنْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِأَلْفٍ، وَالْآخَرُ بِخَمْسِمِائَةٍ، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا؛ لِاخْتِلَافِهِمَا لَفْظًا وَعِنْدَهُمَا تُقْبَلُ عَلَى الْخَمْسِمِائَةِ، إذَا ادَّعَى الزَّوْجُ الْأَلْفَ؛ لِاتِّفَاقِهِمَا عَلَى مِقْدَارِ الْخَمْسِمِائَةِ مَعْنًى، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِيمَا سَبَقَ، ثُمَّ الْأَصْلُ بَعْدَ هَذَا فِي بَابِ الْخُلْعِ أَنَّ الْبَدَلَ فِي الْخُلْعِ بِمَنْزِلَةِ الصَّدَاقِ فِي النِّكَاحِ، فَإِنَّهُ مَالٌ يَلْتَزِمُهُ لَا بِمُقَابَلَةِ مَالٍ، وَقَدْ بَيَّنَّا حُكْمَ الصَّدَاقِ فِي النِّكَاحِ، فَالْخُلْعُ قِيَاسُهُ إلَّا فِي فُصُولٍ يَذْكُرُ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا فِيهَا حَتَّى إذَا اخْتَلَعَتْ عَلَى دَارٍ، فَلَا شُفْعَةَ لِلشَّفِيعِ فِيهَا، وَإِنْ اشْتَرَطَ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهَا أَلْفًا مَعَ ذَلِكَ، فَفِي وُجُوبِ الشُّفْعَةِ فِي حِصَّةِ الْأَلْفِ خِلَافٌ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ كَمَا فِي الصَّدَاقِ، وَلَيْسَ فِي جَعْلِ الْخُلْعِ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ، وَلَا رَدٌّ بِعَيْبٍ يَسِيرٍ كَمَا فِي الصَّدَاقِ.
(قَالَ): وَإِذَا اخْتَلَعَتْ بِمَا فِي بَيْتِهَا مِنْ شَيْءٍ، فَهُوَ جَائِزٌ، وَكُلَّمَا يَكُونُ فِي بَيْتِهَا فِي تِلْكَ السَّاعَةِ، فَهُوَ لَهُ؛ لِأَنَّ بِالْإِشَارَةِ إلَى الْمَحَلِّ تَنْقَطِعُ الْمُنَازَعَةُ بَيْنَهُمَا بِسَبَبِ الْجَهَالَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ شَيْءٌ، فَلَا شَيْءَ لَهُ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَغُرَّ الزَّوْجَ بِتَسْمِيَةِ الشَّيْءِ، فَإِنَّهُ يَنْطَلِقُ عَلَى مَا لَا قِيمَةَ لَهُ؛ فَلِهَذَا لَا يَلْزَمُهَا شَيْءٌ.
وَفِي هَذَا الْفَصْلِ فِي النِّكَاحِ يَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ، وَلَكِنْ بِاعْتِبَارِ أَنَّ تَسْمِيَةَ الشَّيْءِ لَغْوٌ مِنْ الزَّوْجِ، فَكَأَنَّهُ تَزَوَّجَهَا عَلَى غَيْرِ مَهْرٍ، فَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا، وَهُنَا يَصِيرُ كَأَنَّهُ خَلَعَهَا بِغَيْرِ شَيْءٍ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْبُضْعَ عِنْدَ دُخُولِهِ فِي مِلْكِ الزَّوْجِ مُتَقَوِّمٌ بِمَهْرِ الْمِثْلِ، وَلَا قِيمَةَ لِلْبُضْعِ عِنْدَ خُرُوجِهِ عَنْ مِلْكِهِ.
(قَالَ): وَإِذَا اخْتَلَعَتْ عَلَى مَا فِي بَيْتهَا مِنْ مَتَاعٍ، فَلَهُ مَا فِيهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ شَيْءٌ رَجَعَ عَلَيْهَا بِالْمَهْرِ الَّذِي أَخَذَتْ مِنْهُ؛ لِأَنَّهَا غَرَّتْهُ بِتَسْمِيَةِ الْمَتَاعِ، فَإِنَّهُ اسْمٌ لِمَا يَكُونُ مُتَقَوِّمًا مُنْتَفَعًا، فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ فِي الْبَيْتِ شَيْءٌ كَانَ مَغْرُورًا مِنْ جِهَتِهَا، وَلِلْمَغْرُورِ دَفْعُ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ بِالرُّجُوعِ عَلَى الْغَارِّ، وَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُ الرُّجُوعِ بِقِيمَةِ الْمَتَاعِ؛ لِكَوْنِهِ مَجْهُولَ الْجِنْسِ، وَالْقَدْرِ، وَلَا بِقِيمَةِ الْبُضْعِ؛ لِأَنَّهُ عِنْدَ الْخُرُوجِ مِنْ مِلْكِ الزَّوْجِ غَيْرُ مُتَقَوِّمٍ، فَإِنَّهُ لَا يُمَلِّكُهَا شَيْئًا، إنَّمَا يَسْقُطُ حَقُّهُ عَنْهَا، فَكَانَ، أَوْلَى الْأَشْيَاءِ مَا سَاقَ إلَيْهَا مِنْ الصَّدَاقِ، فَإِنَّ الْغَرَرَ يَنْدَفِعُ عَنْهُ بِالرُّجُوعِ بِذَلِكَ.
(قَالَ): وَإِنْ قَالَتْ اخْلَعْنِي عَلَى مَا فِي يَدِي مِنْ دَرَاهِمَ، فَإِنْ كَانَتْ فِي يَدِهَا ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ، أَوْ أَكْثَرُ فَلَهُ ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهَا شَيْءٌ، فَلَهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ؛ لِأَنَّهَا سَمَّتْ جَمِيعَ الدَّرَاهِمِ، وَأَدْنَى الْجَمْعِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ ثَلَاثَةٌ، وَلَيْسَ لِأَقْصَاهُ نِهَايَةٌ، فَأَوْجَبْنَا الْأَدْنَى وَفِي الصَّدَاقِ فِي هَذَا الْفَصْلِ لَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا؛ لِأَنَّ هُنَاكَ الزَّوْجَ يَمْلِكُ عَلَيْهَا مَا هُوَ مُتَقَوِّمٌ، فَلَهَا أَنْ لَا تَرْضَى بِالْأَدْنَى، وَفِي مُعَاوَضَةِ الْمُتَقَوِّمِ بِالْمُتَقَوِّمِ يَجِبُ النَّظَرُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ، وَفِي تَعْيِينِ الْأَدْنَى تَرْكُ النَّظَرِ لَهَا؛ فَلِهَذَا، أَوْجَبْنَا مَهْرَ الْمِثْلِ، وَهُنَا الزَّوْجُ لَا يُمَلِّكُهَا شَيْئًا مُتَقَوِّمًا فَيَتَعَيَّنُ أَدْنَى الْجَمْعِ؛ لِكَوْنِهِ مُتَيَقَّنًا؛ وَلِأَنَّهَا لَمَّا كَانَتْ تَلْتَزِمُ لَا بِعِوَضٍ مُتَقَوِّمٍ، كَانَ هَذَا فِي حَقِّهَا قِيَاسُ الْإِقْرَارِ، وَالْوَصِيَّةِ، وَمَنْ أَقَرَّ لِغَيْرِهِ بِدَرَاهِمَ، أَوْ أَوْصَى لَهُ بِدَرَاهِمَ يَلْزَمُهُ ثَلَاثَةٌ، وَإِنْ كَانَ فِي يَدِهَا دِرْهَمَانِ تُؤْمَرُ بِإِتْمَامِ ثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ لَهُ؛ لِأَنَّهَا فِيمَا الْتَزَمَتْ ذَكَرَتْ لَفْظَ الْجَمْعِ، وَفِي الْمَثْنَى مَعْنَى الْجَمْعِ، وَلَيْسَ بِجَمْعٍ مُطْلَقٍ، فَإِنَّ التَّثْنِيَةَ غَيْرُ الْجَمْعِ.
(فَإِنْ قِيلَ): قَدْ ذَكَرَتْ فِي كَلَامِهَا حَرْفَ مِنْ، وَهُوَ لِلتَّبْعِيضِ، وَالدِّرْهَمَانِ بَعْضُ الْجَمْعِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُلْزِمَهَا إلَّا مَا فِي يَدِهَا كَمَا قَالَ فِي الْجَامِعِ: إذَا قَالَ: إنْ كَانَ مَا فِي يَدِي مِنْ الدَّرَاهِمِ إلَّا ثَلَاثَةً، فَعَبْدُهُ حُرٌّ، وَفِي يَدِهِ أَرْبَعَةُ دَرَاهِمَ كَانَ حَانِثًا.
(قُلْنَا): نَعَمْ حَرْفُ مِنْ قَدْ يَكُونُ لِلتَّبْعِيضِ، وَقَدْ يَكُونُ صِلَةً كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنْ الْأَوْثَانِ}، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ}، فَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ يَصِحُّ الْكَلَامُ بِدُونِ حَرْفِ مِنْ كَانَ حَرْفُ مِنْ فِيهِ صِلَةً لِتَصْحِيحِ الْكَلَامِ، كَمَا فِي مَسْأَلَةِ الْخُلْعِ، فَإِنَّهَا لَوْ قَالَتْ: اخْلَعْنِي عَلَى مَا فِي يَدِي دَرَاهِمَ كَانَ الْكَلَامُ مُخْتَلًّا، وَحَرْفُ مِنْ صِلَةٌ؛ لِتَصْحِيحِ الْكَلَامِ، وَيَبْقَى مِنْهَا لَفْظُ الْجَمْعِ، فَلِهَذَا يَلْزَمُهَا ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ، وَالدَّنَانِيرُ، وَالْفُلُوسُ فِي هَذَا قِيَاسُ الدَّرَاهِمِ.
(قَالَ): وَإِنْ اخْتَلَعَتْ مِنْهُ بِمَا فِي نَخْلِهَا مِنْ ثَمَرَةٍ، وَلَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ، فَلَهُ الْمَهْرُ الَّذِي أَعْطَاهَا؛ لِأَنَّهَا غَرَّتْهُ بِتَسْمِيَةِ الثَّمَرَةِ، وَهُوَ اسْمٌ لِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ، وَإِنْ اخْتَلَعَتْ مِنْهُ بِمَا يُثْمِرُ نَخْلَهَا الْعَامَ، فَهُوَ جَائِزٌ، فَإِنْ أَثْمَرَتْ، فَلَهُ ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ تُثْمِرْ شَيْئًا، فَلَا شَيْءَ لَهُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، ثُمَّ رَجَعَ، فَقَالَ يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِمَا أَعْطَاهَا مِنْ الْمَهْرِ أَثْمَرَتْ، أَوْ لَمْ تُثْمِرْ، وَلَا شَيْءَ لَهُ مِنْ الثَّمَرَةِ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَجْهُ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ أَنَّهَا لَمْ تَغُرَّهُ بِشَيْءٍ، وَلَكِنَّهَا، أَوْجَبَتْ لَهُ مَا يُثْمِرُ نَخْلُهَا الْعَامَ، فَكَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْإِيجَابِ بِطَرِيقِ الْوَصِيَّةِ، وَمَنْ، أَوْصَى بِمَا تُثْمِرُ نَخِيلُهُ الْعَامَ، فَإِنْ أَثْمَرَتْ، فَهِيَ لِلْمُوصَى لَهُ وَإِنْ لَمْ تُثْمِرْ، فَلَا شَيْءَ لَهُ، فَهَذَا مِثْلُهُ.
وَجْهُ قَوْلِهِ الْآخَرِ أَنَّهَا تَلْتَزِمُ بَدَلَ الْخُلْعِ عِوَضًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِمُقَابَلَتِهِ مَا هُوَ مُتَقَوِّمٌ، وَالثِّمَارُ الْمَعْدُومَةَ لَا تَصْلُحُ عِوَضًا فِي شَيْءٍ مِنْ الْعُقُودِ، فَيَبْقَى مُجَرَّدَ تَسْمِيَةِ مَا هُوَ مُتَقَوِّمٌ بِهِ، وَذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْغُرُورِ مِنْهَا، وَذَلِكَ يُثْبِتُ حَقَّ الرُّجُوعِ بِمَا أَعْطَاهَا، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْغُرُورَ ثَابِتٌ هُنَا مَعْنًى لَمَّا تَعَذَّرَ تَسْلِيمُ الْمُسَمَّى لَهُ شَرْعًا، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ وُجِدَ الْغُرُورُ مِنْهَا صُورَةً؛ بِأَنْ سَمَّتْ الْمَتَاعَ الَّذِي فِي يَدِهَا، وَلَيْسَ فِي يَدِهَا مَتَاعٌ فَيَرْجِعُ عَلَيْهَا بِمَا أَعْطَاهَا.
(قَالَ): وَإِنْ اخْتَلَعَتْ مِنْهُ بِمَا فِي بَطْنِ جَارِيَتِهَا أَوْ عَلَى مَا فِي بُطُونِ غَنَمِهَا، فَهُوَ جَائِزٌ، وَلَهُ مَا فِي بُطُونِهَا بِخِلَافِ الصَّدَاقِ، فَإِنَّ فِي مَسْأَلَتِهِ يَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ لَهَا؛ لِأَنَّ مَا فِي الْبَطْنِ لَيْسَ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ فِي الْحَالِ، وَلَكِنْ بِاعْتِبَارِ الْمَآلِ هُوَ مَالٌ بَعْدَ الِانْفِصَالِ إلَّا أَنَّ أَحَدَ الْعِوَضَيْنِ فِي بَابِ النِّكَاحِ لَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ، فَكَذَلِكَ الْعِوَضُ الْآخَرُ، وَلَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُ التَّسْمِيَةِ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّ الْمُسَمَّى لَيْسَ بِمَالٍ، وَلَا بِاعْتِبَارِ الْمَآلِ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْإِضَافَةِ، أَوْ التَّعْلِيقِ بِالِانْفِصَالِ، فَكَانَ لَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا، وَأَمَّا فِي الْخُلْعِ أَحَدُ الْعِوَضَيْنِ، وَهُوَ الطَّلَاقُ يَحْتَمِلُ الْإِضَافَةَ وَالتَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ، فَكَذَلِكَ الْعِوَضُ الْآخَرُ، وَأَمْكَنَ تَصْحِيحُ تَسْمِيَةِ مَا فِي الْبَطْنِ بِاعْتِبَارِ الْمَآلِ، وَهُوَ مَا بَعْدَ الِانْفِصَالِ، وَإِذَا صَحَّتْ التَّسْمِيَةُ، فَلَهُ الْمُسَمَّى، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي بُطُونِهَا شَيْءٌ، فَلَا شَيْءَ لَهُ؛ لِأَنَّهَا مَا غَرَّتْهُ، فَمَا فِي الْبَطْنِ قَدْ يَكُونُ مَالًا مُتَقَوِّمًا، وَقَدْ يَكُونُ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ رِيحٍ، أَوْ وَلَدٍ مَيِّتٍ، وَالرُّجُوعُ عَلَيْهَا بِمَا أَعْطَى بِحُكْمِ الْغُرُورِ، وَمَا وُجِدَ فِي بُطُونِهَا بَعْدَ الْخُلْعِ، فَهُوَ لِلْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّهَا سَمَّتْ الْمَوْجُودَ فِي الْبَطْنِ عِنْدَ الْخُلْعِ، فَلَا يَتَنَاوَلُ مَا يَحْدُثُ بَعْدَ ذَلِكَ، بَلْ الْحَادِثُ نَمَاءُ مِلْكِهَا فَيَكُونُ لَهَا.
.
(قَالَ): وَإِنْ اخْتَلَعَتْ مِنْهُ بِحُكْمِهِ، أَوْ بِحُكْمِهَا، أَوْ بِحُكْمِ أَجْنَبِيٍّ، فَهُوَ جَائِزٌ كَمَا فِي الصَّدَاقِ إلَّا أَنَّ هُنَاكَ الْمِعْيَارُ مَهْرُ الْمِثْلِ، وَهُنَا الْمِعْيَارُ مَا أَعْطَاهَا، فَإِنْ اخْتَلَعَتْ بِحُكْمِهِ، فَحَكَمَ الزَّوْجُ عَلَيْهَا بِمِقْدَارِ مَا أَعْطَاهَا، أَوْ بِأَقَلَّ، فَذَلِكَ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّهُ مُسْقِطٌ بَعْضَ حَقِّهِ، وَإِنْ حَكَمَ بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْهَا الزِّيَادَةُ إلَّا أَنْ تَرْضَى بِهِ، وَإِنْ كَانَ بِحُكْمِهَا، فَإِنْ حَكَمَتْ بِمَا أَعْطَاهَا الزَّوْجُ، أَوْ أَكْثَرَ جَازَ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَهَا عَلَى نَفْسِهَا بِالْتِزَامِ الزِّيَادَةِ صَحِيحٌ، وَإِنْ حَكَمَتْ بِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَثْبُتْ النُّقْصَانُ إلَّا أَنْ يَرْضَى الزَّوْجُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ حُكْمَهَا بِذَلِكَ عَلَى الزَّوْجِ، وَإِنْ كَانَ بِحُكْمِ أَجْنَبِيٍّ، فَلَهُ مَا أَعْطَاهَا؛ لِأَنَّ الْأَجْنَبِيَّ إنْ حَكَمَ بِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ، فَهُوَ مُتَصَرِّفٌ عَلَى الزَّوْجِ بِإِسْقَاطِ بَعْضِ حَقِّهِ، وَإِنْ حَكَمَ بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، فَهُوَ مُتَصَرِّفٌ عَلَيْهَا بِإِلْزَامِ الزِّيَادَةِ، فَلَا يَنْفُذُ بِدُونِ رِضَاهَا.
(قَالَ): وَإِنْ اخْتَلَعَتْ مِنْهُ عَلَى خَادِمٍ بِغَيْرِ عَيْنِهَا، فَهُوَ جَائِزٌ، وَلَهُ خَادِمٌ وَسَطٌ، أَوْ قِيمَتُهُ، أَيُّهُمَا أَتَتْ بِهِ أُجْبِرَ عَلَى الْقَبُولِ كَمَا فِي الصَّدَاقِ.
(قَالَ): وَإِنْ اخْتَلَعَتْ مِنْهُ بِمَا تَكْتَسِبُ الْعَامَ مِنْ مَالٍ، أَوْ بِمَا تَرِثُهُ، أَوْ بِمَا تَتَزَوَّجُ عَلَيْهِ، أَوْ بِمَا تَحْمِلُ جَارِيَتَهَا، أَوْ غَنَمَهَا فِيمَا يُسْتَقْبَلُ كَانَ لَهُ الْمَهْرُ الَّذِي أَعْطَاهَا فِي جَمِيعِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمُسَمَّى لَا يَصْلُحُ عِوَضًا فِي شَيْءٍ مِنْ النُّقُودِ: إمَّا لِأَنَّهُ عَلَى خَطَرِ الْوُجُودِ لَا يَدْرِي أَيَكُونُ أَمْ لَا، أَوْ لِأَنَّهُ مَجْهُولُ الْجِنْسِ وَالصِّفَةِ، وَالْقَدْرِ، فَلَا يَصِحُّ الْتِزَامُهُ فِي الْخُلْعِ أَيْضًا، وَلَكِنَّهَا غَرَّتْهُ بِتَسْمِيَةِ الْمَالِ، فَيَلْزَمُهَا رَدُّ مَا سَاقَ إلَيْهَا بِسَبَبِ الْغُرُورِ، وَكَذَلِكَ مَا تَحْمِلُ جَارِيَتُهَا، أَوْ نَعَمُهَا مِنْ وَلَدٍ لَا يَصِحُّ تَمْلِيكُهُ مِنْ الْغَيْرِ بِشَيْءٍ مِنْ أَسْبَابِ التَّمْلِيكِ، الْوَصِيَّةُ وَغَيْرُهَا فِيهِ سَوَاءٌ، فَيَلْزَمُهَا رَدُّ الْمَقْبُوضِ بِسَبَبِ الْغُرُورِ.
(قَالَ): وَكَذَلِكَ إنْ اخْتَلَعَتْ عَلَى أَنْ تُزَوِّجَهُ امْرَأَةً وَتُمْهِرَ عَنْهُ، فَالْخُلْعُ جَائِزٌ، وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ؛ لِلْجَهَالَةِ الْمُسْتَتِمَّةِ فِي الْمُسَمَّى، وَلَكِنَّ الْغُرُورَ يَتَمَكَّنُ لِتَسْمِيَةِ الْإِمْهَارِ، فَعَلَيْهَا رَدُّ الْعِوَضِ، وَإِنْ اخْتَلَعَتْ مِنْهُ عَلَى مَوْصُوفٍ مِنْ الْمَكِيلِ، أَوْ الْمَوْزُونِ، أَوْ النَّبَاتِ، فَهُوَ جَائِزٌ كَمَا فِي الصَّدَاقِ، وَإِنْ اخْتَلَعَتْ مِنْهُ عَلَى ثَوْبٍ أَوْ عَلَى دَارٍ، فَالتَّسْمِيَةُ فَاسِدَةٌ لِلْجَهَالَةِ الْمُسْتَتِمَّةِ كَمَا فِي الصَّدَاقِ، وَلَهُ الْمَهْرُ الَّذِي أَعْطَاهَا بِسَبَبِ الْغُرُورِ، وَكَذَلِكَ إنْ اخْتَلَعَتْ مِنْهُ بِدَابَّةٍ لِلْجَهَالَةِ الْمُسْتَتِمَّةِ، فَإِنَّ اسْمَ الدَّابَّةِ يَتَنَاوَلُ أَجْنَاسًا مُخْتَلِفَةً، فَلَهُ الْمَهْرُ الَّذِي أَعْطَاهَا، وَإِنْ اخْتَلَعَتْ مِنْهُ بِشَيْءٍ مَعْرُوفٍ مُسَمًّى، وَلَهَا عَلَيْهِ مَهْرٌ، وَقَدْ دَخَلَ بِهَا، أَوْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا لَزِمَهَا مَا سَمَّتْ لَهُ، وَلَا شَيْءَ لَهَا مِمَّا سُمِّيَ عَلَى الزَّوْجِ مِنْ الْمَهْرِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لَهَا أَنْ تَرْجِعَ عَلَيْهِ بِالْمَهْرِ، إنْ كَانَ قَدْ دَخَلَ بِهَا، وَيُنَصَّفُ الْمَهْرُ إنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ أَخَذَتْ الْمَهْرَ، ثُمَّ خَلَعَهَا قَبْلَ الدُّخُول عَلَى شَيْءٍ مُسَمًّى، فَلَيْسَ لِلزَّوْجِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهَا بِشَيْءٍ مِنْ الْمَهْرِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِنِصْفِ الْمَهْرِ.
وَإِنْ كَانَ الْعَقْدُ بَيْنَهُمَا بِلَفْظَةِ الْمُبَارَأَةِ، فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْمُبَارَأَةِ: الْجَوَابُ كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْخُلْعَ، وَالْمُبَارَأَةَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى تُوجِبَانِ بَرَاءَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ مِنْ الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ بِالنِّكَاحِ حَتَّى لَا يَرْجِعَ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ بِشَيْءٍ بَعْدَ ذَلِكَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يُوجِبَانِ إلَّا الْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ، وَفِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ حُقُوقِ النِّكَاحِ يُجْعَلُ كَالْفُرْقَةِ بِغَيْرِ جُعْلٍ بِالطَّلَاقِ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْخُلْعِ الْجَوَابُ كَمَا قَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَفِي الْمُبَارَأَةِ الْجَوَابُ كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ هَذَا طَلَاقٌ بِعِوَضٍ فَيَجِبُ بِهِ الْعِوَضُ الْمُسَمَّى، وَلَا يَسْقُطُ شَيْءٌ مِنْ الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ كَمَا لَوْ كَانَ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لِعَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ إلَّا فِي اسْتِحْقَاقِ الْعِوَضِ الْمُسَمَّى بِهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ دَيْنٌ وَاجِبٌ بِسَبَبٍ آخَرَ، أَوْ عَيْنٌ فِي يَدِهِ، لَا يَسْقُطُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ بِالْخُلْعِ وَالْمُبَارَأَةِ، فَكَذَلِكَ الْحُقُوقُ الْوَاجِبَةُ عَلَيْهِ بِالنِّكَاحِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ نَفَقَةَ عِدَّتِهَا لَا تَسْقُطُ، وَهِيَ مِنْ الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ بِالنِّكَاحِ، فَكَذَلِكَ الْمَهْرُ، بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ النَّفَقَةَ أَضْعَفُ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: الْمَقْصُودُ بِهَذَا الْعَقْدِ لَا يَتِمُّ إلَّا بِإِسْقَاطِ الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ بِالنِّكَاحِ، فَلِإِتْمَامِ هَذَا الْمَقْصُودِ يَتَعَدَّى حُكْمُ هَذَا الْعَقْدِ إلَى الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ بِالنِّكَاحِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَهَذَا لِأَنَّ الْخُلْعَ إنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ النُّشُوزِ، وَسَبَبُ النُّشُوزِ الْوَصْلَةُ الَّتِي بَيْنَهُمَا بِسَبَبِ النِّكَاحِ، فَتَمَامُ انْقِطَاعِ الْمُنَازَعَةِ وَالنُّشُوزِ، إنَّمَا يَكُونُ بِإِسْقَاطِ مَا وَجَبَ بِاعْتِبَارِ تِلْكَ الْوَصْلَةِ.
وَفِي لَفْظِهِمَا مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، فَإِنَّ الْمُبَارَأَةَ مُشْتَقَّةٌ مِنْ الْبَرَاءَةِ، وَالْخُلْعُ مِنْ الْخَلْعِ، وَهُوَ الِانْتِزَاعُ، يَقُولُ الرَّجُلُ: خَلَعْت الْخُفَّ مِنْ الرِّجْلِ إذَا قَطَعْت مَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْوَصْلِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، فَأَمَّا إذَا كَانَ الْعَقْدُ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ، فَقَدْ رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ يُسْقِطُ الْحُقُوقَ الْوَاجِبَةَ أَيْضًا بِالنِّكَاحِ؛ لِإِتْمَامِ الْمَقْصُودِ، وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لَيْسَ فِي لَفْظِ الطَّلَاقِ مَا يَدُلُّ عَلَى إسْقَاطِ الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ بِالنِّكَاحِ؛ فَلِهَذَا لَا تَسْقُطُ، فَأَمَّا سَائِرُ الدُّيُونِ فَوُجُوبُهَا مَا كَانَ بِسَبَبِ وَصْلَةِ النِّكَاحِ وَالنُّشُوزُ، وَالْمُنَازَعَةُ لَمْ يَتَحَقَّقْ فِيهِ؛ فَلِهَذَا لَا يَسْقُطُ، وَأَمَّا نَفَقَةُ الْعِدَّةِ فَهِيَ غَيْرُ وَاجِبَةٍ عِنْدَ الْخُلْعِ، إنَّمَا تَجِبُ شَيْئًا فَشَيْئًا، وَالْخُلْعُ، وَالْمُبَارَأَةُ إسْقَاطُ مَا هُوَ وَاجِبٌ بِحُكْمِ النِّكَاحِ فِي الْحَالِ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَخَذَ فِي الْمُبَارَأَةِ بِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِتَحْقِيقِ مَعْنَى الْبَرَاءَةِ.
وَفِي الْخُلْعِ أَخَذَ بِقَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مَعْنَى الْبَرَاءَةِ عَنْ الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ، فَجَعَلَ لَفْظَ الْخُلْعِ بِمَنْزِلَةِ لَفْظِ الطَّلَاقِ، وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ لَوْ كَانَ مَهْرُهَا أَلْفَ دِرْهَمٍ فَاخْتَلَعَتْ مِنْهُ قَبْلَ الدُّخُولِ عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ مِنْ مَهْرِهَا، فَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَرْجِعَ عَلَى الزَّوْجِ بِشَيْءٍ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَفِي قَوْلِهِمَا تَرْجِعُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعِمِائَةٍ، وَلَوْ كَانَتْ قَبَضَتْ الْأَلْفَ، ثُمَّ اخْتَلَعَتْ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ مِنْهَا، لَمْ يَكُنْ لِلزَّوْجِ غَيْرُ الْمِائَةِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَعِنْدَهُمَا يَرْجِعُ عَلَيْهَا إلَى تَمَامِ النِّصْفِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمَهْرُ عَبْدًا بِعَيْنِهِ فِي يَدِهَا، فَاخْتَلَعَتْ مِنْهُ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ، عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِشَيْءٍ مِنْ الْعَبْدِ، وَعِنْدَهُمَا يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِنِصْفِ الْعَبْدِ، وَلَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَلْفٍ دِرْهَمٍ، فَوَهَبَتْ لَهُ النِّصْفَ، وَقَبَضَتْ النِّصْفَ، ثُمَّ اخْتَلَعَتْ مِنْهُ بِشَيْءٍ مَجْهُولٍ كَالثَّوْبِ وَنَحْوِهِ، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِمَا دَفَعَ إلَيْهَا مِنْ الْمَهْرِ لَا بِالْأَلْفِ الَّتِي كَانَ أَصْلُ الْعَقْدِ بِهَا؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ حَقِّ الرُّجُوعِ عِنْدَ الْغُرُورِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الزَّوْجِ، وَذَلِكَ يَتِمُّ إذَا رَجَعَ بِمَا سَاقَ إلَيْهَا، وَلَوْ كَانَتْ وَهَبَتْ جَمِيعَ الْمَهْرِ لِزَوْجِهَا لَمْ يَرْجِعْ الزَّوْجُ عَلَيْهَا بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ الرُّجُوعَ بِحُكْمِ قَبْضِهَا، وَلَمْ يَقْبِضْ شَيْئًا، وَالرُّجُوعُ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الزَّوْجِ، وَالضَّرَرُ مُنْدَفِعٌ هُنَا حِينَ سُلِّمَ لَهُ جَمِيعُ الْمَهْرِ بِالْهِبَةِ.
(قَالَ): وَإِذَا اخْتَلَعَتْ مِنْ زَوْجِهَا بِعَبْدٍ بِعَيْنِهِ فَمَاتَ قَبْل أَنْ تُسَلِّمَهُ فَعَلَيْهَا قِيمَتُهُ لَهُ كَمَا فِي الصَّدَاقِ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِلتَّسْلِيمِ لَمْ يَنْفَسِخْ بِهَلَاكِهِ، فَإِنْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْعَبْدَ كَانَ مَاتَ قَبْلَ الْخُلْعِ، فَإِنَّمَا يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِالْمَهْرِ الَّذِي أَخَذَتْ مِنْهُ؛ لِأَنَّهَا غَرَّتْهُ بِتَسْمِيَةِ الْعَبْدِ، وَإِنْ كَانَ حَيًّا فَاسْتُحِقَّ، فَعَلَيْهَا قِيمَتُهُ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ تَسْلِيمُهُ مَعَ بَقَاءِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلتَّسْلِيمِ لَهُ، وَإِنْ ظَهَرَ أَنَّهُ كَانَ حُرًّا، فَعَلَيْهَا الْمَهْرُ الَّذِي أَخَذَتْ مِنْهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَيْهَا قِيمَتُهُ أَنْ لَوْ كَانَ عَبْدًا وَهَذَا وَالصَّدَاقُ سَوَاءٌ.
(قَالَ): وَإِنْ اخْتَلَعَتْ مِنْهُ بِمَا لَا يَحِلُّ كَالْخَمْرِ، وَالْخِنْزِيرِ، وَالْمَيْتَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَيْهَا شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْمُسَمَّى لَيْسَ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ، فَلَا يَتَمَكَّنُ الْغُرُورُ مِنْهَا بِهَذِهِ التَّسْمِيَةِ، فَصَارَتْ هَذِهِ التَّسْمِيَةُ، وُجُودُهَا كَعَدَمِهَا، وَبِهَذَا فَارَقَ الصَّدَاقَ، فَإِنَّ تَسْمِيَةَ الْخَمْرِ هُنَاكَ، وُجُودُهَا كَعَدَمِهَا، وَلَكِنْ بِدُونِ التَّسْمِيَةِ يَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ هُنَاكَ، وَلَا يَجِبُ هُنَا شَيْءٌ، وَإِنْ غَرَّتْهُ، فَقَالَتْ: أَخْتَلِعُ مِنْك بِهَذَا الْخَلِّ، فَإِذَا هُوَ خَمْرٌ، فَعَلَيْهَا أَنْ تَرُدَّ الْمَهْرَ الْمَأْخُوذَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهَا مِثْلُ ذَلِكَ الْكَيْلِ مِنْ خَلٍّ وَسَطٍ، وَهَذَا وَالصَّدَاقُ سَوَاءٌ.
(قَالَ): وَإِذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ، ثُمَّ اخْتَلَعَتْ مِنْهُ بِمَالٍ مُؤَجَّلٍ، فَهُوَ جَائِزٌ إذَا كَانَ الْأَجَلُ مَعْلُومًا؛ لِأَنَّ الْخُلْعَ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ، فَيَصِحُّ اشْتِرَاطُ الْأَجَلِ الْمَعْلُومِ فِي بَدَلِهِ كَسَائِرِ الْمُعَوَّضَاتِ، وَإِنْ كَانَ الْأَجَلُ مَجْهُولًا جَهَالَةً مُسْتَتِمَّةً مِثْلُ الْمَيْسَرَةِ، أَوْ مَوْتِ فُلَانٍ، أَوْ قُدُومِ فُلَانٍ، فَالْمَالُ عَلَيْهَا حَالٌّ؛ لِأَنَّ الْأَجَلَ اسْمٌ لِزَمَانٍ مُنْتَظَرٍ، وَلَمْ يَصِرْ مَذْكُورًا بِذِكْرِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَتَّصِلَ مَوْتُ فُلَانٍ، أَوْ قُدُومُهُ، وَالْمَيْسَرَةُ بِالْعَقْدِ، فَبَقِيَ هَذَا شَرْطًا فَاسِدًا، وَالْخُلْعُ لَا يَبْطُلُ بِهِ، فَكَانَ الْمَالُ حَالًّا عَلَيْهَا، وَإِنْ كَانَ إلَى الْإِعْطَاءِ، أَوْ إلَى الدِّيَاسِ، أَوْ النَّيْرُوزِ، أَوْ الْمِهْرَجَانِ فَالْمَالُ إلَى ذَلِكَ الْأَجَلِ؛ لِأَنَّهُمَا ذَكَرَا فِي الْعَقْدِ مَا هُوَ أَجَلٌ، وَهُوَ الزَّمَانُ الَّذِي هُوَ مُنْتَظَرٌ، فَإِنَّ وَقْتَ الشِّتَاءِ لَيْسَ بِزَمَانِ الْحَصَادِ وَالدِّيَاسِ بِيَقِينٍ، وَلَكِنْ فِي آخِرِهِ بَعْضُ الْجَهَالَةِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ قَدْ يَتَقَدَّمُ إذَا تَعَجَّلَ الْحَرَّ، وَيَتَأَخَّرُ إذَا تَطَاوَلَ الْبَرْدُ، وَلَكِنَّ هَذَا الْقَدْرَ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْأَجَلِ خُصُوصًا فِي الْعَقْدِ الْمَبْنِيِّ عَلَى التَّوَسُّعِ كَالْكَفَالَةِ، وَالْخُلْعُ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّوَسُّعِ فَتَثْبُتُ فِيهِ هَذِهِ الْآجَالِ، فَإِنْ ذَهَبَتْ الْغَلَّةُ فِي ذَلِكَ الْعَامِ، فَلَمْ يَكُنْ حَصَادٌ وَلَا جَزَازٌ، فَالْأَجَلُ إلَى مِثْلِ ذَلِكَ الْوَقْتِ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ فِي مِثْلِ الْبَلَدِ، وَكَذَلِكَ الْعَطَاءُ؛ لِأَنَّ ذِكْرَ الْعَطَاءِ كَانَ عَلَى سَبِيلِ الْكِنَايَةِ عَنْ وَقْتِهِ، فَلَا مُعْتَبَرَ بِوُجُودِ حَقِيقَتِهِ، وَوَقْتُهُ مَعْرُوفٌ عِنْدَ النَّاسِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ، فَإِذَا جَاءَ ذَلِكَ الْوَقْتُ وَجَبَ تَسْلِيمُ الْمَالِ، وَبَدَلُ الْخُلْعِ إذَا كَانَ دَيْنًا، فَهُوَ فِي حُكْمِ أَخْذِ الرَّهْنِ، وَالْكَفِيلِ بِهِ بِمَنْزِلَةِ الصَّدَاقِ حَتَّى إذَا هَلَكَ هَلَكَ بِمَا فِيهِ، وَكَانَ هُوَ أَمِينًا فِي الْفَضْلِ.
(قَالَ): وَإِنْ خَلَعَهَا عَلَى وَصِيفٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ، فَإِنْ جَاءَتْ بِقِيمَتِهِ أُجْبِرَ عَلَى قَبُولِهِ كَمَا فِي الصَّدَاقِ، وَإِنْ صَالَحَهَا مِنْ الْوَصِيفِ عَلَى دَرَاهِمَ مِمَّا يُكَالُ، أَوْ يُوزَنُ، أَوْ الْعُرُوض، أَوْ الْحَيَوَانُ مِنْ غَيْرِ صِفَتِهِ، فَهُوَ جَائِزٌ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ يَدًا بِيَدٍ كَمَا فِي الصَّدَاقِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ مَقْبُوضًا كَانَ دَيْنًا بِدَيْنٍ، وَذَلِكَ حَرَامٌ.
(قَالَ): وَإِذَا اخْتَلَعَتْ فِي مَرَضِهَا بِمَهْرِهَا الَّذِي كَانَ لَهَا عَلَى زَوْجِهَا، ثُمَّ مَاتَتْ فِي الْعِدَّةِ، فَلَهُ الْأَقَلُّ مِنْ مِيرَاثِهِ، وَمِنْ الْمَهْرِ إنْ كَانَ يَخْرُجُ مِنْ ثُلُثِ مَالِهَا مَهْرٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا مَالٌ سِوَى ذَلِكَ، فَلَهُ الْأَقَلُّ مِنْ مِيرَاثِهِ مِنْهَا، وَمِنْ الثُّلُثِ، وَإِنْ مَاتَتْ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، فَلَهُ الْمَهْرُ مِنْ ثُلُثِ مَالِهَا، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ إذَا اخْتَلَعَتْ فِي مَرَضِهَا، فَبَدَلُ الْخُلْعِ مُعْتَبَرٌ مِنْ ثُلُثِ مَالِهَا عِنْدَنَا، وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ، وَاعْتُبِرَ الْخُلْعُ بِالنِّكَاحِ، فَإِنَّ الْمَرِيضَ لَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً بِصَدَاقِ مِثْلِهَا اُعْتُبِرَ مِنْ جَمِيعِ مَالِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ حَوَائِجِهِ، وَكَذَلِكَ الْمَرِيضَةُ إذَا اخْتَلَعَتْ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ حَوَائِجِهَا لِتَتَخَلَّصَ بِهِ مِنْ أَذَى الزَّوْجِ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: الْبُضْعُ عِنْدَ دُخُولِهِ فِي مِلْكِ الزَّوْجِ مُتَقَوِّمٌ، وَعِنْدَ الْخُرُوجِ لَا يَتَقَوَّمُ حَتَّى إنَّ لِلْأَبِ أَنْ يُزَوِّجَ ابْنَهُ امْرَأَةً بِمَالِهِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُخَالِعَ ابْنَتَهُ مِنْ زَوْجِهَا بِمَالِهَا، وَالْخُلْعُ لَيْسَ مِنْ أُصُولِ حَوَائِجِهَا، فَكَانَ بَدَلُ الْخُلْعِ بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ مِنْهَا لِلزَّوْجِ فَيُعْتَبَرُ مِنْ الثُّلُثِ، وَمَنْ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ إذَا صَالَحَ فِي مَرَضِهِ عَلَى الدِّيَةِ عِنْدَنَا يُعْتَبَرُ مِنْ جَمِيعِ مَالِهِ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِإِحْيَاءِ نَفْسِهِ، فَكَانَ ذَلِكَ مِنْ أُصُولِ حَوَائِجِهِ بِخِلَافِ بَدَلِ الْخُلْعِ، وَعِنْدَ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يُعْتَبَرُ هُنَا مِنْ الثُّلُثِ بِخِلَافِ الْخُلْعِ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ عُقُوبَةٌ، فَلَا يُعْتَاضُ عَنْهُ بِالْمَالِ حَقِيقَةً، فَيَكُونُ الْتِزَامُ الْمَالِ بِمَعْنَى الصِّلَةِ الْمُبْتَدَأَةِ، وَالْمَمْلُوكُ بِالنِّكَاحِ مِمَّا يُعْتَاضُ عَنْهُ بِالْمَالِ بِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ، وَمَا يُسَلَّمُ لِلزَّوْجِ هُنَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ عِوَضًا يُعْتَبَرُ مِنْ جَمِيعِ مَالِهَا، إذَا عَرَفْنَا هَذَا، فَنَقُولُ إذَا مَاتَتْ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، فَسَبَبُ مِيرَاثِهِ بَاقٍ بِبَقَاءِ الْعِدَّةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَصْدُهَا بِهَذَا الْخُلْعِ إيصَالَ الْمَنْفَعَةِ الْمَالِيَّةِ إلَى الزَّوْجِ، وَلَكِنَّ هَذِهِ التُّهْمَةَ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى قَدْرِ مِيرَاثِهِ، فَأَمَّا فِي الْأَقَلِّ، فَلَا تُهْمَةَ؛ فَلِهَذَا كَانَ لَهُ الْأَقَلُّ مِنْ مِيرَاثِهِ وَمِمَّا سَمَّتْ لَهُ، وَإِذَا مَاتَتْ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، فَلَيْسَ بَيْنَهُمَا سَبَبُ التَّوَارُثِ عِنْدَ مَوْتِهَا، فَيَكُونُ لَهُ جَمِيعُ الْمُسَمَّى مِنْ الثُّلُثِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ، أَوْصَتْ لَهُ، أَوْ أَقَرَّتْ بِشَيْءٍ بَعْدَ مَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا.
وَإِنْ كَانَ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا، فَاخْتَلَعَتْ مِنْهُ فِي مَرَضِهَا بِمَهْرِهَا، فَنَقُولُ: أَمَّا نِصْفُ الْمَهْرِ، فَقَدْ سَقَطَ عَنْ الزَّوْجِ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ لَا مِنْ جِهَتِهَا، وَالنِّصْفُ الْبَاقِي لَهُ مِنْ ثُلُثِ مَالِهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْقَدْرَ بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ مِنْهَا لَهُ، وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا سَبَبُ التَّوَارُثِ، إذَا كَانَ الطَّلَاقُ قَبْلَ الدُّخُولِ، فَلَا مَعْنَى لِاعْتِبَارِ الْأَقَلِّ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ اخْتَلَعَتْ مِنْهُ بِأَكْثَرَ مِنْ مَهْرِهَا، فَنِصْفُ الْمَهْرِ سَقَطَ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَالنِّصْفُ الْبَاقِي مَعَ الزِّيَادَةِ لِلزَّوْجِ مِنْ ثُلُثِ مَالِهَا، فَإِنْ بَرِئَتْ مِنْ مَرَضِهَا، فَلَهُ جَمِيعُ الْمُسَمَّى بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ خَالَعَهَا فِي صِحَّتِهَا.
(قَالَ): وَإِنْ اخْتَلَعَتْ، وَهِيَ صَحِيحَةٌ وَالزَّوْجُ مَرِيضٌ، فَالْخُلْعُ جَائِزٌ بِالْمُسَمَّى قَلَّ، أَوْ كَثُرَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ طَلَّقَهَا بِغَيْرِ عِوَضٍ، كَانَ صَحِيحًا، فَبِالْعِوَضِ الْقَلِيلِ، أَوْلَى، وَلَا مِيرَاثَ لَهَا مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ إنَّمَا وَقَعَتْ بِقَبُولِهَا، فَكَأَنَّهُ طَلَّقَهَا بِسُؤَالِهَا.
(قَالَ): وَإِنْ تَبَرَّعَ أَجْنَبِيٌّ فِي مَرَضِهِ بِاخْتِلَاعِهَا مِنْ الزَّوْجِ بِمَالٍ ضَمِنَهُ لِلزَّوْجِ، فَهُوَ جَائِزٌ مِنْ ثُلُثِهِ إذَا مَاتَ مِنْ ذَلِكَ الْمَرَضِ؛ لِأَنَّ الْأَجْنَبِيَّ الْتَزَمَ الْمَالَ فِي مَرَضِهِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ حَصَلَ لَهُ، فَكَانَ مُعْتَبَرًا مِنْ ثُلُثِهِ، وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ مَرِيضًا حِينَ فَعَلَ الْأَجْنَبِيُّ هَذَا بِغَيْرِ رِضَاهَا، فَلَهَا الْمِيرَاثُ إذَا مَاتَ الزَّوْجُ قَبْلَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ وَقَعَتْ بِغَيْرِ رِضَاهَا، فَيَكُونُ الزَّوْجُ فَارًّا فِي حَقِّهَا.
(قَالَ): وَإِذَا وَكَّلَ رَجُلٌ رَجُلًا أَنْ يَخْلَعَ امْرَأَتَهُ، فَقَامَ الْوَكِيلُ مِنْ مَجْلِسِهِ قَبْلَ أَنْ يَخْلَعَهَا، فَهُوَ عَلَى وَكَالَتْهُ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ التَّوْكِيلِ لَا يَتَوَقَّتُ بِالْمَجْلِسِ كَمَا فِي سَائِرِ الْعُقُودِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ مِنْ الْوَكِيلِ تَحْصِيلُ مَقْصُودِ الْمُوَكِّلِ، وَالْمَجْلِسُ وَمَا بَعْدَهُ فِي هَذَا سَوَاءٌ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ لَهَا: أَمْرُك بِيَدِك؛ لِأَنَّ ذَلِكَ تَمْلِيكُ الْأَمْرِ مِنْهَا، وَجَوَابُ التَّمْلِيكِ يَقْتَصِرُ عَلَى الْمَجْلِسِ، وَهَذَا إنَابَةٌ لَهُ مَنَابَ نَفْسِهِ فِي عَقْدِ الْخُلْعِ، فَيَصِيرُ نَائِبًا عَنْهُ مَا لَمْ يَعْزِلْهُ كَمَا لَوْ قَالَ لَهُ: طَلِّقْهَا.
(قَالَ): وَإِذَا وَكَّلَ رَجُلَيْنِ بِالْخُلْعِ فَخَلَعَ أَحَدُهُمَا لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّ الْخُلْعَ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى الرَّأْيِ وَالتَّدْبِيرِ، وَهُوَ إنَّمَا رَضِيَ بِرَأْيِ الْمَثْنَى وَرَأْيُ الْوَاحِدِ لَا يَكُونُ كَرَأْيِ الْمَثْنَى، فَلَا يَحْصُلُ مَقْصُودُهُ إذَا انْفَرَدَ أَحَدُهُمَا بِهِ كَمَا فِي الْبَيْعِ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ طَلِّقَاهَا فَطَلَّقَهَا أَحَدُهُمَا، جَازَ؛ لِأَنَّ إيقَاعَ الطَّلَاقِ مُجَرَّدُ عِبَارَةٍ لَا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى الرَّأْيِ وَالتَّدْبِيرِ، وَعِبَارَةُ الْوَاحِدِ وَعِبَارَةُ الْمَثْنَى سَوَاءٌ، وَمَا هُوَ مَقْصُودُ الزَّوْجِ يَحْصُلُ بِإِيقَاعِ أَحَدِهِمَا.
(قَالَ): وَإِذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا عَلَى عَبْدِي هَذَا إنْ شِئْت، فَقَامَتْ مِنْ مَجْلِسِهَا قَبْلَ أَنْ تَشَاءَ، فَهِيَ امْرَأَتُهُ، وَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ فِي هَذَا إلَّا بِقَبُولِهَا؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ الْمُسَمَّى مِلْكُ الزَّوْجِ، فَكَانَ ذِكْرُهُ وَالسُّكُوتُ عَنْهُ سَوَاءً، فَيَبْقَى قَوْلُهُ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إنْ شِئْت، فَإِذَا قَامَتْ قَبْلَ أَنْ تَشَاءَ خَرَجَ الْأَمْرُ مِنْ يَدِهَا فَلَا يَقَعُ عَلَيْهَا شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْمَشِيئَةَ مِنْهَا لَمْ تُوجَدْ؛ وَلِأَنَّهُ، أَوْقَعَ الطَّلَاقَ بِعِوَضٍ، فَلَا يَقَعُ إلَّا بِوُجُودِ الْقَبُولِ، وَإِنْ لَمْ يَجِبْ الْعِوَضُ، وَلَا مَنْفَعَةَ فِيهِ لِأَحَدِهِمَا، كَمَا لَوْ طَلَّقَهَا عَلَى خَمْرٍ، أَوْ مَيْتَةٍ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ إلَّا بِقَبُولِهَا، وَإِنْ كَانَ لَا يَجِبُ عَلَيْهَا شَيْءٌ بَعْدَ الْقَبُولِ، وَإِنْ قَبِلَتْ فِي الْمَجْلِسِ، وَقَعَ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا لِوُجُودِ الْقَبُولِ؛ وَلِأَنَّهَا لَمَّا قَبِلَتْ فَقَدْ شَاءَتْ، وَالْعَبْدُ عَبْدُ الزَّوْجِ عَلَى حَالِهِ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ لَا يَكُونُ عِوَضًا عَنْ مِلْكِهِ، وَلَا شَيْءَ لَهُ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَغُرَّهُ، وَإِنْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شِئْت عَلَى عَبْدِك الَّذِي فِي يَدِي، فَإِنْ قَبِلَتْ وَقَعَ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا، وَلَهُ الْعَبْدُ؛ لِأَنَّ مِلْكَهَا يَصْلُحُ عِوَضًا عَنْ الطَّلَاقِ سَوَاءٌ كَانَ فِي يَدِهَا، أَوْ فِي يَدِ الزَّوْجِ، فَإِنْ اسْتَحَقَّ الْعَبْدَ فَلَهُ قِيمَتُهُ؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ بِالْعَقْدِ صَارَ مُسْتَحَقًّا عَلَيْهَا، وَقَدْ بَطَلَ فَيَبْقَى الزَّوْجُ بِالِاسْتِحْقَاقِ مِنْ الْأَصْلِ وَالسَّبَبُ الْمُوجِبُ تَسْلِيمٌ قَائِمٌ، فَعَلَيْهَا قِيمَتُهُ لَهُ.
(قَالَ): وَإِنْ طَلَّقَهَا عَلَى مَا فِي يَدِهِ فَقَبِلَتْ، فَإِذَا فِي يَدِهِ جَوْهَرَةٌ لَهَا، فَهِيَ لَهُ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ عَلِمَتْ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي أَضَرَّتْ بِنَفْسِهَا حِينَ قَبِلَتْ الْخُلْعَ قَبْلَ أَنْ تَعْلَمَ مَا فِي يَدِهِ، وَلَوْ اشْتَرَى مِنْهَا بِهَذِهِ الصِّفَةِ كَانَ جَائِزًا، وَلَا خِيَارَ لَهَا فَالْخُلْعُ، أَوْلَى، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ شَيْءٌ، فَالطَّلَاقُ رَجْعِيٌّ، وَلَا شَيْءَ لَهُ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَغُرَّهُ، وَصَرِيحُ الطَّلَاقِ لَا يُوجِبُ الْبَيْنُونَةَ إلَّا بِعِوَضٍ.
(قَالَ): وَإِنْ اخْتَلَعَتْ مِنْهُ بِعَبْدٍ حَلَالِ الدَّمِ فَقُتِلَ عِنْدَهُ بِقِصَاصٍ رَجَعَ عَلَيْهَا بِقِيمَتِهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَهَذَا بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِحْقَاقِ عِنْدَهُ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ وَجَبَ قَطْعُ يَدِهِ فَقُطِعَ، عِنْدَ الزَّوْجِ رَدَّهُ، وَأَخْذُ قِيمَتِهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَهَذَا بِمَنْزِلَةِ الْعَيْبِ الْفَاحِشِ يَكُونُ فِي يَدِهَا بِالْعَبْدِ وَعِنْدَهُمَا عَيْبُ الْقَطْعِ فِي حُكْمِ الْحَادِثِ عِنْدَ الزَّوْجِ فَيَمْنَعُهُ مِنْ رَدِّ الْعَبْدِ عَلَيْهَا، وَمَوْضِعُ بَيَانِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ.
(قَالَ): وَلَوْ خَلَعَهَا عَلَى عَبْدٍ نَصْرَانِيٍّ، أَوْ أَمَةٍ لَهَا زَوْجٌ، أَوْ عَبْدٌ لَهُ امْرَأَةٌ، وَلَمْ تُعْلِمْهُ ذَلِكَ لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهَا بِشَيْءٍ، فَإِنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْعَيْبِ الْيَسِيرِ؛ لِأَنَّ نُقْصَانَ الْمَالِيَّةِ يَقِلُّ بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ، وَبَدَلُ الْخُلْعِ لَا يُرَدُّ بِالْعَيْبِ الْيَسِيرِ كَالصَّدَاقِ.
(قَالَ): وَإِنْ اخْتَلَعَتْ وَمَهْرُهَا أَلْفُ دِرْهَمٍ عَلَى عَبْدٍ عَلَى أَنْ زَادَهَا أَلْفَ دِرْهَمٍ، فَاسْتَحَقَّ الْعَبْدُ مِنْ يَدِهِ رَجَعَ عَلَيْهَا بِالْأَلْفِ وَبِنِصْفِ قِيمَةِ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ بَذَلَتْ الْعَبْدَ بِإِزَاءِ شَيْئَيْنِ الْأَلْفِ الَّتِي قَبَضَتْ، وَالْخُلْعِ، وَهُمَا سَوَاءٌ فَانْقَسَمَ الْعَبْدُ نِصْفَيْنِ نِصْفُهُ بِيعَ مِنْ الزَّوْجِ بِالْأَلْفِ، فَعِنْدَ الِاسْتِحْقَاقِ يَرْجِعُ بِثَمَنِهِ الْمَدْفُوعِ، وَنِصْفُهُ بَدَلُ الْخُلْعِ، فَعِنْدَ الِاسْتِحْقَاقِ يَرْجِعُ بِقِيمَتِهِ؛ فَلِهَذَا رَجَعَ عَلَيْهَا بِالْأَلْفِ وَبِنِصْفِ قِيمَةِ الْعَبْدِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ أَعْطَاهَا مَكَانَ الْأَلْفِ خَادِمًا قِيمَتُهُ أَلْفٌ أَخَذَ الْخَادِمَ وَنِصْفَ قِيمَةِ الْعَبْدِ لِأَنَّ نِصْفَ الْعَبْدِ كَانَ بَيْعًا لَهُ بِالْخَادِمِ، وَالِاسْتِحْقَاقُ يُبْطِلُ الْبَيْعَ فَيَرْجِعُ بِالْخَادِمِ وَالنِّصْفِ الْآخَرِ مِنْ الْعَبْدِ جُعْلًا فَيَرْجِعُ بِقِيمَتِهِ عِنْدَ الِاسْتِحْقَاقِ.
(قَالَ): وَإِنْ خَلَعَهَا عَلَى أَنْ أَعْطَتْهُ دِرْهَمًا قَدْ نَظَرَ إلَيْهِ فِي يَدِهَا، فَإِذَا هُوَ زَيْفٌ، أَوْ سَتُّوقٌ، فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا جَيِّدًا؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ تَسْمِيَةِ الدَّرَاهِمِ يَتَنَاوَلُ الْجِيَادَ، فَكَانَ لَهُ أَنْ يَرُدَّ الزَّيْفَ وَالسَّتُّوقَ وَيُطَالِبَهَا بِمَا اسْتَحَقَّ مِنْ الْعَقْدِ.
(قَالَ): وَلَيْسَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْعَيْبِ فِي الْعَبْدِ يُرِيدُ بِهِ أَنَّ الْعَبْدَ لَا يُرَدُّ بِالْعَيْبِ الْيَسِيرِ فِي الْخُلْعِ، وَالدَّرَاهِمُ تُرَدُّ بِعَيْبِ الزِّيَافَةِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ عَيْبًا يَسِيرًا؛ لِأَنَّ الْخُلْعَ مَا تَعَلَّقَ بِتِلْكَ الدَّرَاهِمِ بِعَيْنِهَا، وَإِنَّمَا تَعَلَّقَ بِدَرَاهِمَ جِيَادٍ فِي ذِمَّتِهَا حَتَّى إنَّ لَهَا أَنْ تَمْنَعَ ذَلِكَ الدِّرْهَمَ وَتُعْطِيَهُ آخَرَ، فَكَانَ لَهُ أَنْ يُطَالِبَهَا بِمَا اسْتَحَقَّ بِالْعَقْدِ؛ وَلِأَنَّهُ بِالرَّدِّ هُنَا يَسْتَفِيدُ شَيْئًا، وَهُوَ الرُّجُوعُ بِالْجَيِّدِ بِخِلَافِ الْعَبْدِ، فَإِنَّ الْعَبْدَ تَعَلَّقَ بِعَيْنِهِ، فَلَا يَسْتَفِيدُ شَيْئًا بِرَدِّهِ بِعَيْبٍ يَسِيرٍ؛ لِأَنَّهُ يَرْجِعُ بِقِيمَتِهِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ قِيمَتِهِ صَحِيحًا وَبَيْنَ عَيْنِهِ مَعَ الْعَيْبِ الْيَسِيرِ.
(قَالَ): وَلَوْ اخْتَلَعَتْ مِنْهُ عَلَى ثَوْبٍ فِي يَدِهَا أَصْفَرَ، فَقَالَتْ هُوَ هَرَوِيٌّ، فَإِذَا هُوَ مَصْبُوغٌ كَانَ لَهُ ثَوْبٌ هَرَوِيٌّ وَسَطٌ؛ لِأَنَّ الْمُسَمَّى إذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ جِنْسِ الْمُشَارِ إلَيْهِ، فَالْعَقْدُ يَتَعَلَّقُ بِالْمُسَمَّى؛ وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ الْبَيْعُ فِي مِثْلِهِ؛ لِأَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِالْمُسَمَّى، وَهُوَ مَعْدُومٌ، فَكَذَلِكَ بِالْخُلْعِ يَتَعَلَّقُ بِالْمُسَمَّى، وَهُوَ ثَوْبٌ هَرَوِيٌّ، وَالْخُلْعُ عَلَى مِثْلِهِ صَحِيحٌ وَيَنْصَرِفُ إلَى الْوَسَطِ كَمَا فِي الصَّدَاقِ.
(قَالَ): وَإِذَا تَزَوَّجَ الْمَرِيضُ امْرَأَةً مَرِيضَةً عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ وَدَفَعَهَا إلَيْهَا، وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُهَا، وَمَهْرُ مِثْلِهَا مِائَةُ دِرْهَمٍ فَاخْتَلَعَتْ بِهَا مِنْهُ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا، ثُمَّ مَاتَتْ مِنْ ذَلِكَ الْمَرَضِ، وَلَا مَالَ لَهَا غَيْرُهَا، ثُمَّ مَاتَ الزَّوْجُ بَعْدَهَا مِنْ ذَلِكَ الْمَرَضِ، فَلِوَرَثَةِ الْمَرْأَةِ مِنْ هَذِهِ الْأَلْفِ مِائَتَا دِرْهَمٍ وَخَمْسَةُ وَسَبْعُونَ دِرْهَمًا، وَلِوَرَثَةِ الزَّوْجِ سَبْعُمِائَةٍ وَخَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَنْبَنِي عَلَى أُصُولٍ: أَحَدُهَا أَنَّ الْمَرِيضَ إذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى أَكْثَرَ مِنْ صَدَاقِ مِثْلِهَا، فَالزِّيَادَةُ عَلَى صَدَاقِ الْمِثْلِ بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ فِي الِاعْتِبَارِ مِنْ الثُّلُثِ، وَمِقْدَارُ صَدَاقِ مِثْلِهَا لَا يُعْتَبَرُ مِنْ الثُّلُثِ، وَالثَّانِي أَنَّ الْمَرِيضَةَ إذَا اخْتَلَعَتْ مِنْ زَوْجِهَا بِمَالٍ يَكُونُ مُعْتَبَرًا مِنْ ثُلُثِ مَالِهَا، وَالثَّالِثُ أَنَّ الطَّلَاقَ قَبْلَ الدُّخُولِ يُسْقِطُ نِصْفَ الصَّدَاقِ عَنْ الزَّوْجِ شَرْعًا، ثُمَّ وَجْهُ تَخْرِيجِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ فِي مِقْدَارِ مَهْرِ مِثْلِهَا، وَهُوَ الْمِائَةُ لَا وَصِيَّةَ مِنْ الزَّوْجِ لَهَا، وَقَدْ عَادَ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ نِصْفُهُ إلَيْهِ بَقِيَ لَهَا خَمْسُونَ، وَقَدْ أَوْصَتْ بِذَلِكَ لِلزَّوْجِ حِينَ اخْتَلَعَتْ مِنْهُ بِهِ، فَإِنَّمَا يُسَلَّمُ لِلزَّوْجِ ثُلُثُ ذَلِكَ، وَهُوَ سِتَّةَ عَشَرَ وَثُلُثَانِ، فَيَكُونُ حَاصِلُ مَالِ الزَّوْجِ تِسْعَمِائَةٍ وَسِتَّةً وَسِتِّينَ وَثُلُثَيْنِ، وَقَدْ حَابَاهَا بِأَرْبَعِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ فِي أَصْلِ النِّكَاحِ؛ لِأَنَّ الْمُحَابَاةَ كَانَتْ تِسْعَمِائَةٍ، وَلَكِنْ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ عَادَ إلَى الزَّوْجِ نِصْفُهَا فَبَقِيَتْ الْمُحَابَاةُ بِأَرْبَعِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ، وَذَلِكَ أَكْثَرُ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ، فَتُعْتَبَرُ مُحَابَاتُهُ مِنْ الثُّلُثِ، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُسَلَّمَ لَهَا ثُلُثُ هَذَا الْمِقْدَارِ إلَّا أَنَّهُ قَالَ: إنَّهُ تَنْفُذُ وَصِيَّتُهُ فِي ثَلَاثَةِ أَثْمَانِ هَذَا الْمِقْدَارِ؛ لِأَنَّا لَوْ نَفَّذْنَا فِي ثُلُثِهَا رَجَعَ ثُلُثُ ذَلِكَ إلَى وَرَثَةِ الزَّوْجِ بِالْخُلْعِ، فَيَزْدَادُ مَالُهُمْ وَتَجِبُ الزِّيَادَةُ فِي تَنْفِيذِ الْوَصِيَّةِ لَهَا بِحَسْبِهِ، فَلَا يَزَالُ يَدُورُ هَكَذَا فَلِقَطْعِ الدَّوْرِ قَالَ: تَنْفُذُ وَصِيَّتُهُ فِي ثَلَاثَةِ أَثْمَانِهِ.
وَطَرِيقُ مَعْرِفَةِ ذَلِكَ بِالسِّهَامِ أَنَّك تَحْتَاجُ إلَى مَالٍ يَنْقَسِمُ ثُلُثُهُ أَثْلَاثًا، وَأَقَلُّ ذَلِكَ تِسْعَةٌ، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ مَالُ الزَّوْجِ عَلَى تِسْعَةِ أَسْهُمٍ، وَتَنْفُذُ وَصِيَّتُهُ فِي ثُلُثِهِ إلَّا أَنَّ سَهْمًا مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ يَعُودُ إلَى الْوَرَثَةِ بِالْخُلْعِ وَصِيَّةً مِنْهَا لَهُ، فَيَصِيرُ فِي يَدِ وَرَثَةِ الزَّوْجِ سَبْعَةُ أَسْهُمٍ وَحَاجَتُهُمْ إلَى سِتَّةٍ، وَهَذَا السَّهْمُ الزَّائِدُ هُوَ الدَّائِرُ الَّذِي يَسْعَى إلَى الْفَسَادِ، فَالسَّبِيلُ طَرْحُ هَذَا السَّهْمِ مِنْ قِبَلِ مَنْ خَرَجَ الدَّوْرُ مِنْ قِبَلِهِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ: سَهْمُ الدَّوْرِ سَاقِطٌ، وَإِنَّمَا ظَهَرَ هَذَا الدَّوْرُ مِنْ جَانِبِ الْوَرَثَةِ بِزِيَادَةِ حَقِّهِمْ، فَنَطْرَحُ مِنْ أَصْلِ حَقِّهِمْ سَهْمًا، فَيَبْقَى حَقُّهُمْ فِي خَمْسَةٍ، وَحَقُّ الْمَرْأَةِ فِي ثَلَاثَةٍ فَيَكُونُ ثَمَانِيَةً؛ فَلِهَذَا جَعَلْنَا مَالَ الزَّوْجِ عَلَى ثَمَانِيَةٍ، ثُمَّ نَفَّذْنَا وَصِيَّتَهُ لَهَا فِي ثَلَاثَةٍ، وَيَعُودُ سَهْمٌ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ إلَى وَرَثَتِهِ بِالْخُلْعِ فَيَصِلُ لِلْوَرَثَةِ سِتَّةٌ، وَقَدْ نَفَّذْنَا الْوَصِيَّةَ فِي ثُلُثِهِ، فَيَسْتَقِيمُ الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ، ثُمَّ وَجْهُ التَّخْرِيجِ مِنْ حَيْثُ الدَّرَاهِمِ أَنَّ مَالَ الزَّوْجِ تِسْعُمِائَةٍ وَسِتَّةٌ وَسِتُّونَ وَثُلُثَانِ، فَإِذَا قَسَّمْتَ ذَلِكَ أَثْمَانًا، فَكُلُّ ثُمُنٍ مِنْ ذَلِكَ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ وَخَمْسَةُ أَسْدَاسٍ، فَثَلَاثَةُ أَثْمَانِهِ تَكُونُ ثَلَثَمِائَةٍ وَاثْنَيْنِ وَسِتِّينَ وَنِصْفًا تَنْفُذُ الْوَصِيَّةُ فِي الِابْتِدَاءِ فِي هَذَا الْمِقْدَارِ يَبْقَى لِلْوَرَثَةِ سِتُّمِائَةٍ وَأَرْبَعَةٌ وَسُدُسٌ، ثُمَّ يَعُودُ إلَيْهِمْ مِنْ جِهَتِهَا مِائَةٌ وَعِشْرُونَ وَخَمْسَةُ أَسْدَاسٍ، فَيَكُونُ جُمْلَةُ ذَلِكَ سَبْعَمِائَةٍ وَخَمْسَةً وَعِشْرِينَ، وَقَدْ نَفَّذْنَا الْوَصِيَّةَ فِي ثَلَثِمِائَةٍ وَاثْنَيْنِ وَسِتِّينَ وَنِصْفٍ، فَيَسْتَقِيمُ الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ، وَحَصَلَ لِوَرَثَةِ الْمَرْأَةِ فِي الِابْتِدَاءِ ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ وَثُلُثٌ، وَبِالْوَصِيَّةِ مِائَتَانِ وَاحِدٌ وَأَرْبَعُونَ وَثُلُثَانِ، فَيَكُونُ جُمْلَةُ ذَلِكَ مِائَتَيْنِ وَخَمْسَةً وَسَبْعِينَ، فَاسْتَقَامَ التَّخْرِيجُ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ بِأَخَوَاتِهَا تَعُودُ فِي كِتَابِ الْعِتْقِ فِي الْمَرَضِ، فَيُؤَخَّرُ تَخْرِيجُ سَائِرِ الطُّرُقِ إلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.